19 سبتمبر 2025

تسجيل

مع الداخلية «إيد واحدة»

08 مارس 2014

حين خيِّر مجلسنا الموقر بين الانحياز إلى حقوق الإنسان التي ينتسب إليها أو الانحياز إلى الحكومة التي يعمل عندها فإنه لم يخذل الحكومة، ووجه إلى عموم المصريين رسالة تقول إنه معها، خصوصا وزارة الداخلية «إيد واحدة». على الأقل فقد كانت تلك هي الرسالة التي تلقيناها في ثنايا التقرير الذي أعلنه المجلس يوم الأربعاء الماضي (5/3) بخصوص وقائع فض اعتصام «رابعة» الذي تم في 14 أغسطس من العام الماضي (2013). وحتى أكون أكثر دقة فإنني أزعم أننا تلقينا رسالتين مما جرى في المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه خلاصة التقرير، واحدة تتعلق بمضمونه والثانية تتعلق بدلالاته ومغزاه.في الشق المتعلق بالمضمون، حرص التقرير على أن يؤكد ثلاثة أمور. الأول أن المعتصمين هم الذين بادروا الشرطة بإطلاق النار والعدوان. الثاني أن المجموعات المسلحة التي تواجدت بين المعتصمين كانت السبب الرئيسي لزيادة أعداد القتلى. الثالث أن الشرطة قامت بفض الاعتصام مهتدية في ذلك بالمعايير الدولية المتعارف عليها. وكل من تابع وسائل الإعلام المصرية لابد أنه لاحظ أن هذه النقاط الثلاث هي التي تم إبرازها في الصحف والعروض التلفزيونية والإذاعية. وإلى جانبها كانت هناك بعض العناوين الفرعية التي وجهت نقدا خفيفا لوزارة الداخلية، أقرب إلى شد الأذن وعتاب المحبين، مرة لأنها ارتكبت بعض الانتهاكات، ومرة أخرى بسبب محدودية الوقت الذي أتاحته لخروج المعتصمين الذين كانوا عدة آلاف، إذ منحوا 25 دقيقة فقط لمغادرة محيط المسجد. إلى غير ذلك من الملاحظات التي أريد بها الإيهام بتوازن التقرير وعدالته، باعتبار أنه وجه الانتقادات للجانبين.إلا أن من يقرأ التقرير يجد نفسه مقتنعا بأن المعتصمين يستحقون ما جرى لهم. وأن الشرطة مارست معهم أقصى درجات ضبط النفس. وأن الأولين لم يكونوا أشرارا مسلحين فحسب، ولكنهم أيضا مفترون وظلمة، آية ذلك مثلا أنهم قاموا ــ والكلام للتقرير ــ بقتل 11 شخصا تحت التعذيب. وهؤلاء توزعوا على اعتصامات رابعة والنهضة والعمرانية بالقاهرة الكبرى. وإذ بدا المعتصمون أشرارا على تلك الشاكلة، فإن الشرطة وحدها التي كانت منضبطة وملتزمة بحدودها. خصوصا المعايير الدولية المعمول بها في مختلف الدول الديمقراطية والمتحضرة.بسبب تلك «الوحشية» التي اتسم بها المعتصمون المدججون بالسلاح، فإن عملية فض الاعتصام أدت إلى مقتل 624 مدنيا، 8 منهم من رجال الشرطة. وهي معلومة تثير تساؤلا مسكونا بالدهشة، لأن مجموعات المعتصمين المسلحة التي اعتلت البنايات وتوزعت على المداخل والأرجاء، «تحدثت صحف تلك الفترة عن تسريبها أسلحة ثقيلة واستحواذها على أسلحة كيماوية» هذه المجموعات «الإرهابية» تم اكتساحها بحيث قتل منها عدة مئات، وأصابها العجز والعمى بحيث لم يزد عدد ضحايا الشرطة التي اشتبكت معها على ثمانية أشخاص فقط.من المفارقات أن التقرير وهو يتحدث عن الضحايا التزم بأرقام وزارة الداخلية، في حين أن المواقع المستقلة تتحدث عن أرقام أخرى مغايرة، ترتفع بأعداد ضحايا فض الاعتصامات في القاهرة وحدها إلى أكثر من 1400 شخص، منهم 982 في فض اعتصام مسجد رابعة وحده، بمن فيهم جنود الشرطة الثمانية. وهؤلاء الضحايا أسماؤهم منشورة على الإنترنت، وقد بذل موقع «ويكي ثورة» جهدا متميزا في هذا الصدد. ولو كان المجلس الموقر حريصا حقا على تقصي الحقائق، لرجع إلى تلك القوائم التي يتعذر الطعن في صحتها.لا يفاجئنا محتوى التقرير، ولا تدهشنا الملابسات التي أحاطت بطبخه، سواء ما تعلق منها بالتراخي في إصداره أو التلاعب في المعلومات التي أثبتها تجميع الباحثين، أو الخلافات التي أخرت المؤتمر الصحفي 3 ساعات بين أعضاء المجلس حول ما ينبغي أن يقال وما ينبغي ستره وعدم إذاعته. ذلك أن أحدا لا يتوقع أن يصدر تقرير من ذلك القبيل دون أن يمر بمصفاة الأجهزة الأمنية. وفي حدود علمي فإن عرض التقارير المتعلقة بحقوق الإنسان على وزارة الداخلية تقليد متبع منذ إنشائه في عام 2003، وليس في ظل المجلس الحالي وحده. بالتالي فلم يحدث أن خلا تقرير من ملاحظات للداخلية سابقة على صدوره، ولكن تدخلاتها اختلفت من حين إلى آخر.إننا إذا أردنا أن نتصارح أكثر في شأن دلالة المشهد فينبغي أن نعترف بأن منظمات حقوق الإنسان عامة هي من تداعيات وإفرازات الممارسات الديمقراطية أو النضال من أجلها. وأن النظم غير الديمقراطية حين تنشئ المجالس المعنية بهذه القضية، فإنها تتطلع دائما لأن توظفها للتستر على انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتجميل وجهها أمام العالم الخارجي. ومن يقارن التقارير التي يصدرها المجلس المصري سابق الذكر في مثل الموقف الذي نحن بصدده بتلك التي تصدرها المنظمات الحقوقية المستقلة فقد يخطر له أنها تتحدث عن بلدين مختلفين وليس عن حدث أو أحداث واحدة. بسبب ذلك ينبغي ألا نستغرب أن يجيء التقرير الذي صدر عن المجلس المصري متبنيا موقف المؤسسة الأمنية ومبررا سلوكها، على النقيض مما رصدته المنظمات الحقوقية المستقلة، المحلية والدولية. من هذه الزاوية فلعلي أقول إن التقرير بالصورة التي قدمها بمثابة شهادة تثبت أزمة الحريات في مصر. وفي حين أن معديه أرادوا تجميل وجه النظام إلا أنه جاء كاشفا لعوراته.