16 سبتمبر 2025

تسجيل

يخربون الحاضر والمستقبل

07 سبتمبر 2016

أطرف ما قرأت بعد إعلان وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف أن متحدثا باسم الحكومة شكك في صحة الخبر بعدما تعذر عليها أن تحصل على تأكيد الرئيس له. وهي مزحة عميقة الدلالة، لأن الرئيس الراحل ظل طوال ٢٧ عاما رمز الدولة والمصدر الأول لأهم أخبارها، بالتالي فإن المواطن الأوزبكي كتب عليه ألا يصدق سوى كلام الرئيس، وأن يشكك في كل ما لم يصدر عنه. فهو كما ذكرت بطانته قدر أوزبكستان وزعيمها وفيلسوفها الأوحد، الذي به ولدت أوزبكستان من جديد، وعرفت طريقها إلى الاستقرار والنمو وصارت في إعلامهم تتصدر الأمم الآسيوية.قصة الرجل الذي تأكد موته عن ٧٨ عاما يوم الجمعة الماضي تقدم نموذجا جديرا بالدراسة ومليئة بالعبر، من حيث إنها تمثل فصلا تكرر في سيرة كل مستبد تجبر واستأثر بالضوء طوال سنوات حكمه، كما ألغى المعارضة السياسية واستبدلها بأخرى مزورة رفعت راية المعارضة لكنها ظلت مرتمية في أحضانه طول الوقت.اسمه الحقيقي إسلام عبدالغنى كريم، لكنه عرف طول الحقبة السوفييتية باسم إسلام عبدالغنينوف كريموف، من مواليد سمرقند عام ١٩٣٨. وقد التحق بالحزب الشيوعي بعدما درس الاقتصاد والهندسة، وانتخب عام ١٩٨٩ سكرتيرا أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في أوزبكستان، ثم انتخب بعد سنتين (عام ١٩٩١) ليكون أول رئيس للجمهورية. لكنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سارع إلى إعلان استقلال بلاده وانفصالها عن الاتحاد. حينذاك خلع ثوب الحزب الشيوعي وارتدى بسرعة ثوب الحزب الليبرالي الديمقراطى، وترك الأممية ليلتحق بالوطنية والقومية. وعلى طريقة «الأسد إلى الأبد» فإنه استبق وقرر أن يفرض نفسه باعتباره رجل الأوزبك الذي لا يفنى وإنما تتجدد حينا بعد حين بالقانون والشرعية، والمؤسسة الأمنية قبل الاثنين. في استفتاء نظمته أجهزته في عام ١٩٩٥ مدد الزعيم المعجزة صلاحياته رئيسا للبلاد حتى عام ٢٠٠٠.. ثم أعيد انتخابه لثلاث فترات إضافية كان آخرها في شهر مارس عام ٢٠١٥. ولاستكمال الشكل الديمقراطي فإن الرجل سمح للمعارضة أن ترشح منافسا له اسمه عبدالحافظ جلالوف، وطبقا للسيناريو فإن الرجل مني بهزيمة ساحقة، حيث صوت ٩١٪ من الناخبين لصالح كريموف، ولم تكن هذه هي «المفاجأة» الوحيدة، لأن المفاجأة الأخرى أن منافسه و«خصمه» السيد جلالوف صوت لصالحه، وتباهى بذلك بعد إعلان النتائج قائلا إنه نافس الرئيس الفلتة ترسيخا لمبادئ الديمقراطية في عهده، لكنه لم يجد أفضل منه فصوت لصالحه! لعب كريموف بكل الأوراق، فهو نصير الطبقة العاملة في المرحلة السوفييتية، وهو الزعيم القومي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وهو الديمقراطي الذي ينتخبه الشعب في كل استفتاء. وهو المحارب للإرهاب بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١. وهو حليف واشنطن بعد الغارة التي استضاف بعدها قاعدة أمريكية في بلاده إسهاما في الحرب العالمية ضد الإرهاب. وهو منقذ البلاد من الإرهاب الإسلامي بمذبحة «انديجان» التي أباد فيها سبعة آلاف من المتظاهرين المعارضين عام ٢٠٠٥. وهو رجل الاستقرار بعد الاستقلال، الذي قضى على المعارضة حتى أصبحت أوزبكستان بلا سياسة ولا معارضة.الذين رفعوا شعار كريموف «قَدَر» أوزبكستان، وهتفوا لبقاء المنقذ إلى الأبد، يواجهون الآن مشكلة، حتى أصبحت بلادهم في مهب الريح. فالرجل حين أمات السياسة وأباد معارضيه لم يدمر الحاضر فقط وإنما دمر المستقبل أيضا. ذلك أنه لم يبق على منافسيه في حياته، ولم يتح لأحد منهم أن يظل قيد الحياة بعد مماته. هم يواجهون الآن مشكلة خلافته وبعده ظل «الأوحد» طوال ٢٧ عاما. ومأساتهم أنه لم يبق إلا على نظائره، بحيث أصبحت السلطة حكرا على كريموف الثاني والثالث وغيرهما. إن الطغاة يتناسخون ويتوهمون أنهم يصنعون التاريخ، وينسون أن استبدادهم يخرج البلاد من مجرى التاريخ.شكوى وإبراء للذمة< ملحوظة: تعرض مقالي الذي نشر في مصر أمس (الثلاثاء) لعدوان ما تمنيته. إذ تدخل فيه رئيس التحرير بحذف وتعديل، رغم أننا تناقشنا فيما ارتآه وحين اختلفنا بصدده، فإنني اقترحت عليه الاعتذار عن عدم نشر المقال واتفقنا على ذلك. إلا أنني فوجئت به منشورا متضمنا تعديلاته. ورغم محدوديتها إلا أنني أعتبر ما جرى عدوانا غير مقبول مهنيا، رغم أنه قد يكون مقبولا في زماننا. ولأنني حرصت على عدم تصعيد الموضوع. فإنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الإشارة إلى ما جرى في ذيل مقال اليوم شاكيا إلى الله، وإبراء لذمتي أمام القارئ الذي من حقه أن يعلم.