15 سبتمبر 2025
تسجيلحينما ماتت السياسة وانطفأ الحلم في الفضاء العربي، قررت جريدة «السفير» اللبنانية الانتحار. إذ توقفت عن الصدور كليا ابتداء من اليوم الأول في شهر يناير الحالي، بعد نضال استمر طيلة ٤٣ عاما، كنت أحد شهود ميلادها في ربيع عام ١٩٧٤، حين كانت الأحلام ما زالت ممكنة، وشاءت المقادير أن تقرر الصحيفة الاختفاء في صقيع عام ٢٠١٧، حين أجهضت الأحلام ونافستها الكوابيس في مختلف أرجاء العالم العربي.يومذاك ــ في ١٤/٤/١٩٧٤ ــ قدم رئيس تحرير الجريدة ومؤسسها الزميل طلال سلمان مشروعه باعتباره إطلالة على عصر جديد تلوح فيه معادلة الحلم الذي تمتزج فيه الوطنية والعروبة والكفاءة المهنية. ووصف «السفير» بأنها «جريدة مقاتلة» تصطف إلى جانب جنود الأمة المجيدة في معركتها الكبرى ضد الثالوث القوى، المتمثل في الصهيونية والإمبرالية والرجعية.طوال العقود الأربعة اللاحقة ظلت الجريدة «المقاتلة تخوض» معاركها على مختلف الجبهات واحدة تلو الأخرى، حتى غدت منارة مضيئة في فضاء الحلم العربي، وكتيبة متقدمة في مواجهة جيوش الظلام ودعاة التشرذم والهزيمة، إلا أن فريقها أدرك في نهاية المطاف أنهم يحاربون ضد التيار السائد في المنطقة، وأن الرياح السوداء ما برحت تهب على العالم العربي مستهدفة الانقضاض بقوة وشراسة على الأحلام التي تعلقت بها الجماهير وتصدت الجريدة طول الوقت للدفاع عنها. صحيح أن ثورة الاتصال أضعفت إلى حد كبير دور ووجود الصحافة الورقية. كما أن الصراعات المخيمة على العالم العربي أثرت سلبا على دور الإعلام في أقطاره، إلا أن ثمة عاملا أهم قوة من كل ذلك كان له دوره في قرار الانتحار، وفي شهادته الأخيرة التي نشرتها جريدة «الشروق» يوم الأربعاء الماضي (٤/١) ذكر طلال سلمان «أن السبب الحقيقي لانطفاء الصحافة العربية وتلاشي دورها وانعدام تأثيرها يعود إلى أن الدول العربية بمجموعها تعيش في قلب الصمت وغياب الحوار وسيطرة السلطة على الهواء والورق وتكميم الأفواه بالقمع أو بالإغواء. وبكليهما بالتناوب. بالتالي فقد تمت السيطرة للصوت الواحد الذي يعبر عن موقف السلطة. وتم ــبالأمرــ تغييب الأفكار والاجتهادات والآراء المختلفة والمتباينة، حتى لو كانت في جوهرها تتوخى مصلحة الشعب ولا تكون بالضرورة معادية للنظام».تطرق طلال سلمان إلى زمن كانت فيه مصر هي القائدة وصحافتها هي الرائدة، الأمر الذي أنعش القوى والطاقات القومية التي عبرت عن نفسها في ساحات عدة، كانت بيروت في مقدمتها، إلا أن الهزائم التي توالت بعد ذلك قلبت الموازين بحيث صرنا «نعيش في زمن آخر، مختلف أشد الاختلاف عن الخمسينيات والستينيات، مرحلة النهوض والتوجه نحو التكامل والتوحد، (إذ) صارت كل دولة مخاصمة للدولة العربية الأخرى، وغرقت بعض الدول العربية في دماء أبنائها، وانتعشت الطوائف والمذاهب، واكتملت الهزيمة بتعاظم المنظمات المتطرفة ذات الشعار الإسلامي التي تريد إرجاع التاريخ قرونا إلى الوراء».في ختام شهادته قال ما خلاصته إن موت السياسة سلمنا إلى عصر الظلام. «ففرض الرأي الواحد هو تعميم للجهل. والفوضى المسلحة التي فرضتها التنظيمات ذات الشعار الإسلامي خلقت جوا من الإرهاب، كان منطقيا أن يلعب دور الحليف لأنظمة القمع ضد حرية التفكير والعمل والسعي إلى غد أفضل».إزاء التقدم الذي أحرزته جيوش الظلام المدججة بأسلحة الفتك والغواية، والساعية إلى قطع الطريق على نهوض العالم العربي وتقدمه، وبعد نزال ومقارعة استمرت ٤٣ عاما، أٌنهكت السفير وظلت رافضة للاستسلام والركوع، وإزاء انسداد الأفق فإنها اختارت أن تسلك طريق «الساموراى» الذي عرفته اليابان في تاريخها، ففضلت الانتحار على الاستسلام والسقوط في أوحال الهزيمة. واختارت اليوم الأول من شهر يناير موعد الغياب الذي يؤكد استدامة الحضور كما يقول المتصوفة.