17 سبتمبر 2025

تسجيل

عن القناة سألوني

06 أغسطس 2015

سألتُ الصحفية التي ألحت على أن تعرف رأيي في مشروع قناة السويس الذي يحتفل بافتتاحه اليوم لماذا تهتم برأيي وللمشروع جوانبه الفنية والاقتصادية التي لها أهلها، حينئذ ردت قائلة إنها توقعت أن يكون لي رأي آخر في الموضوع. وأنها حريصة على أن تعرض الآراء المختلفة بصدده. لم أستغرب الملاحظة لأن بين الصحفيين الجدد شرائح التبست عليها الأمور لأنها تربت في أجواء صحافة هذا الزمان التي تخلت عن الكثير من مفاهيم وتقاليد المهنة التي عرفها جيلنا، خصوصا حين تحولت الصحف من منابر للتعبير عن ضمير المجتمع، إلى أبواق لمراكز القوى وأدوات في أيدي أجهزة السلطة وإدارات التوجيه المعنوي. قلت للصحفية إن الاختلاف حول السياسات وارد وقد يكون مطلوبا لنقدها وتصويبها، ولكن الاختلاف لا يجوز حول المصالح العليا. وإذا كان التعدد في النظر إلى السياسات مقبولا فإن الأمر لابد أن يختلف حين يتعلق الأمر بتلك المصالح العليا التي يظل الإجماع حولها ضروريا. والاختلاف بين الأمرين أشبه بالاختلاف بين الفروع والأصول. والسياسات تندرج تحت العنوان الأول والمصالح العليا جوهر العنوان الثاني. وإذا صح ما قيل من أن القناة ستشكل إضافة مهمة للدخل القومي وستشكل ركيزة لتنمية محور قناة السويس فذلك مما لا ينبغي أن يختلف عليه أحد، وإنما يتعين أن يلقى كل تأييد وتشجيع ومباركة للجهد الذي بذل فيه والأمل المعقود عليه. قالت الصحفية: لكنك هاجمت حفل الافتتاح. قلت إن السؤال غير دقيق لأنني تحفظت على فكرة البذخ والمبالغة في الافتتاح وليس على مبدأ إقامة الحفل الذي أدرك ضرورته. وحين قيل لي إن المبالغة لا تخلو من فائدة ولها مردودها لأنه يراد بها جذب المستثمرين من أنحاء العالم وجدت في الملاحظة بعض الوجاهة وسكت بعد ذلك، وإن كان غيري أثار الموضوع وقارن الافتتاح بما أقدم عليه الخديو إسماعيل حين فعلها في افتتاح القناة الأصلية عام ١٨٦٩. استطردت قائلا إنني لم أتعرض لجوانب المشروع وجدواه كما فعل آخرون من أهل الخبرة، ثم إن التحفظ الذي أبديته ينبغي ألا يعد هجوما، وهو لا يتجاوز إبداء ملاحظة تعلقت بالشكل ولا علاقة لها بالموضوع والهجوم قد يستهدف التشهير والهدم أما النقد فيراد به التصويب والتصحيح. لم أكد أفرغ من الرد على أسئلة ومناكفات الصحفية الشابة حتى استلفت نظري رسالة لسيدة في بريدي الالكتروني ــ ذكرت اسمها ولم أستأذنها في نشره ــ ألقت علىّ السؤال التالي: هل ستكتب عن قناة السويس أم أنك ستكتفي بالكتابة عن السلبيات دون غيرها. وجدت السؤال الذي سمعته من آخرين يعبر عن تنامي الحساسية لدى كثيرين إزاء النقد والرأى الآخر إلى درجة إساءة الظن بالكاتب، إضافة أن تلك الحساسية عبرت عن التباس وسوء فهم لمهمة الكاتب. أما الحساسية فهي راجعة إلى حالة الاستقطاب المروعة التي شاعت في مصر بحيث حولت الرأى الآخر إلى تهمة وجريمة تربط الكاتب بمختلف مصادر الخصومة والتآمر، بدءا من الطابور الخامس وانتهاء بمخططات التنظيم الدولي. ولا يخلو الأمر من غمز في الانتماء وطعن في الوطنية والولاء. وهناك عوامل كثيرة أسهمت ليس فقط في تعميق الانقسام ولكن أيضا في تدهور مستوى الاشتباك الناشئ عن ذلك. وفي مقدمة تلك العوامل الدور السلبي الذي يقوم به الإعلام الهابط في استباحة الآخر واستخدامه في ذلك مختلف أساليب التجريح والقمع والاغتيال المعنوي. فيما خص الالتباس في مهمة الكاتب ورسالته فإن كل اختلاف في الرأي صار يوصف باعتباره من قبيل النقد غير البناء. حتى أصبح مفهوم المصطلح يحتاج إلى إعادة تحرير. إذ طبقا لذلك فإن المديح والتصفيق وحده صارا التعبير الأثير عن النقد البناء. وهو ما يستفز أي كاتب مستقل، يرفض الانخراط في القطيع. وفيما يتعلق بي فمنذ انضممت إلى كتاب الرأي في سبعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة فإنني لم أغير من اقتناعي بأن الكلمة المسؤولة هي الكلمة الناقدة التي توقظ وتنبه وتدق الأجراس طوال الوقت. وهو موقف له ثمنه بطبيعة الحال. إلا أنني التزمت به طوال العهود التي تعاقبت على مصر منذ ذلك الحين. أذكر في هذا الصدد أن الروائي والشاعر السوري الراحل محمد الماغوط أصدر كتابا كان عنوانه: الفرح ليس مهنتي. وهو أراد بالعنوان أن ينبه القارئ من البداية أنه يقرأ كتابا في التمرد على كل صور الظلم والاستبداد والفساد. لذلك جاءت فصوله بمثابة حزمة من الأجراس التي لا تكف عن الرنين المدوى طول الوقت. وإذا جاز لي أن اقتبس العنوان فلعلي أقول بدوري إن التهليل ليس مهنتي، لأنني انتمي إلى المدرسة التي تعتبر الكتابة معركة وليست نزهة أو تسلية. ومن هذه الزاوية يعد العامود اليومي بمثابة رصاصة تنطلق كل صباح ــ التعبير للأستاذ أحمد بهاء الدين ــ لتنير طريقا وتوقظ غافلا أو تفضح فاسدا أو تتحدى ظالما أو تصوب مخطئا أو تنتصر لمظلوم. وذلك جنس من الكتابة المقاوِمة التي يحتاجها أى بلد يخوض معركة التقدم والحرية. وهناك أجناس أخرى من الكتابة لها احترامها في عوالم المعرفة والأدب والترويج وغيرها، وهذه قد يكون لها إسهامها في المعركة ذاتها بأساليب وقوالب أخرى. في الضباب المخيم على الأفق الإعلامي يلتبس الأمر على كثيرين من دعاة الرأي الواحد، وتضيق الصدور بالكتابة المقاومة بحيث تصبح أجراس التنبيه مصدرا للإزعاج وسببا للكآبة، رغم أنها السبيل الوحيد لاستمرار اليقظة وعلاج الثغرات وتصويب الأخطاء. ولكن أكثر الناس في زماننا لا يعلمون. ومنهم من يؤثر الغفلة ويستعذب العيش في عالم الأمنيات والأوهام، في حين يضيق ذرعا بملامسة الواقع بحقائقه وأعبائه. وفي هذه الحالة فإن العيب يصبح في المتلقى وليس في الكاتب.