18 سبتمبر 2025
تسجيلتروج في مصر هذه الأيام مجموعة من الأساطير التي بات تفكيكها ضروريا لاستعادة الوعي وترشيده. كي نخلص الحقائق من ركام الخرافات والأوهام. (1) إحدى أشهر تلك الأساطير تتمثل في شيوع الاعتقاد بأن الحل الأمني كفيل بإنهاء الأزمة الراهنة في مصر، الأمر الذي يعني أن الصراع الحاصل لن يحله غير الجيش والشرطة، ويعني أيضا أن العقل السياسي سوف ينحى جانبا ويمنع إجازة مفتوحة، وأن إدارة الصراع ستكفل بها الأجهزة الأمنية والمحاكم العسكرية، محروسة بقانون الطوارئ، وبالمدرعات والأسلاك الشائكة. كأننا بصدد شعار يقول: الاستئصال والقمع هما الحل. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك ليس شعار المؤسسة والأجهزة الأمنية فحسب، ولكنه تحول إلى هتاف يومي تردده شبيحة الوضع المستجد، الذين مارسوا قدرا مشهودا من الإرهاب الفكري الذي لم يسلم منه كل من سوّلت له نفسه أن يدعو إلى تفاهم يحكم العقل والمصلحة، ويقود البلد إلى بر السلام والأمان، إذ لا يكاد ينطق واحد بشيء من ذلك القبيل حتى تنفتح عليه أبواب الجحيم، فيتهم بالخيانة والإرهاب ويتعرض لمختلف صور الاغتيال المعنوي والتكفير السياسي، ومن ثم صارت القضية المحورية التي شغلت هؤلاء وفتحت شهيتهم للاجتهاد هي كيف يتم الاجتثاث، وكيف تحقق الإبادة غايتها. كان الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء قد استخدم في مرة وحيدة تعبير الحل السياسي، فشاهدت مذيعا تلفزيونيا يقرأ تصريحه بقرف شديد ويعيد الكلمات وهو يمصمص شفتيه، ويعرب عن الاستياء والدهشة من جرأة الدكتور زياد على التفوه بمثل هذه الكلمات «الخارجة» التي أقحمت السياسة في الموضوع، حتى أنه شك في أن يكون الرجل قد تفوه بهذه الكلمات، وقال إنه إذا كانت قد صدرت عنه فعلا، فإن صاحبنا ــ المذيع ــ لم يستبعد أن يكون قد فعلها وهو في حالة غير طبيعية! (كأن يكن قد شرب حاجة صفرا مثلا!) في 15/10 الماضي نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالة تحت عنوان «مصر وثمار القمح المسمومة»، كتبته أستاذة جامعية خبيرة بالشأن المصري هي سوفي بومييه وقد أيدت فيه دهشتها من استمرار التعويل على الحل الأمني في مصر. وقالت إن الاستبداد أرسى نموذجا ثنائيا للحكم يقوم على طرف قامع وآخر مقموع، بحيث إن مصر لم تعد تعرف نموذج المساومة والحوار. وهو تقييم أكثر ما ينطبق على المرحلة الراهنة، صحيح أن الخطاب السياسي ما برح يشير إلى استبعاد فكرة الإقصاء. إلا أن البديل المطروح في هذه الحالة لم يكن الاحتواء، لكنه الإبادة والاجتثاث. أدري أن ثمة كلاما كثيرا ينبغي أن يقال في شأن الحل السياسي، الذي له أجواؤه وشروطه، إلا أنني لم أجد مبررا للخوض في هذا الشق، لأنني أزعم أن إرادة ذلك الحل ليست متوافرة في الوقت الراهن، وأن ثمة أطرافا في دائرة القرار لا تزال تعول على الحل الأمني، رغم مضي أربعة أشهر على اختباره وثبوت فشله وارتفاع تكلفته. (2) الأسطورة الأخرى التي كادت أن تتحول إلى مسلمة في خطابنا الإعلامي على الأقل تتمثل في الادعاء بأن الولايات المتحدة منحازة إلى الإخوان وتضغط وتتآمر لإعادة الدكتور مرسي إلى السلطة، وهي من تجليات التبسيط والتسطيح الذي يعتبر أن كل من ليس مع مصر هو ضدها. وهو ذلك التبسيط الذي أقنع البعض بأن أوباما شخصيا ــ وليس شقيقه فقط ــ على علاقة بتنظيم الإخوان الدولي، وأنه ثمة أخونة للإعلام الألماني، وأن جريدة الجارديان البريطانية أصبحت من الصحف الصفراء، لمجرد أن كل هؤلاء لم يقفوا إلى جانب النظام في مصر، ولم يرددوا ما تنشره الصحف القومية المصرية وقنوات التهليل التلفزيونية. هذا الادعاء لا يصدقه أحد خارج مصر، والدبلوماسيون الذين أعرفهم يعتبرونه أمرا مضحكا يتعذر أخذه على محمل الجد ويصفونه ضمن مظاهر التهريج السياسي والإعلامي، وقد وقعت على نصين نشرتهما جريدة «الشروق» في الآونة الأخيرة تكفلا بتفنيد المقولة وتكذيبها، الأول للسفير إيهاب وهبة مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأمريكية (نشر في 2/11 تحت عنوان أخطاء شائعة حول المساعدات الأمريكية) ــ والثاني للكاتب الباحث محمد المنشاوي المقيم بالولايات المتحدة، والذي يراسل جريدة «الشروق» من هناك. وقد نشرت له الجريدة في 25/10 مقالة تحت عنوان: كلمات منسية في الأزمة المصرية الأمريكية. ما كتبه الخبيران يصعب تلخيصه، لأنه تعرض لمختلف عناوين العلاقات بين البلدين، مع ذلك فبوسعي أن أقول إنهما حرصا على إبراز ثلاث نقاط هي: * أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن لم تكن في أحسن حالاتها أثناء حكم الدكتور مرسي، فالإدارة الأمريكية ظلت تدعوه طوال فترة حكمه إلى تحقيق التوافق مع مختلف فئات الشعب وفي خطبة له في أول يوليو الماضي قال الرئيس أوباما إن الديمقراطية لا تنحصر في إجراء الانتخابات وإنما أيضا في كيفية تعامل الحكم مع قوى المعارضة، كما أن الرئيس الأمريكي لم يحرص على لقاء الرئيس المصري حين ذهب إلى نيويورك لإلقاء كلمة مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر 2012. وهو من قال في حوار تلفزيوني جرى بثه في منتصف شهر سبتمبر عام 2012: إنه لا يعتبر المصريين بمثابة حلفاء، لكنه لا ينظر إليهم باعتبارهم أعداء. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة «الأعداء» في قاموس العلاقات المصرية الأمريكية. * إن ما يتعلق بالولايات المتحدة ليس عزل الدكتور مرسي ــ لكن ما يزعجها حقا أمران، أحدهما إقصاء جماعة سياسية بقوة وثقل جماعة الإخوان. وثانيهما افتقاد مصر إلى ديمقراطية تشمل الجميع وحكومة مدنية منتخبة تعبر حقا عن ديمقراطية الاحتواء. الفكرة رددها جون كيري وزير الخارجية الأمريكي حين زار القاهرة هذا الأسبوع. * إن أكثر ما يهم واشنطن في نهاية المطاف ليس بالضرورة عودة الإخوان إلى السلطة، وإنما عودة الاستقرار إلى مصر على نحو يحفظ للولايات المتحدة نفوذها ومصالحها في قناة السويس والمجال الجوي المصري والتعاون الاستخباري. (3) الأسطورة الثالثة تتلخص في الادعاء بأن مصر تستطيع أن تستعيد عافيتها من خلال الاعتماد على المعونات والقروض الخارجية. وهو ما نلحظه في الانزعاج من احتجاز واشنطن لمبلغ 360 مليون دولار من المعونة السنوية التي تقدم إلى القاهرة، ونلاحظه بصورة أكبر في هرولة المسؤولين المصريين والوفود الشعبية نحو الدول الخليجية، التي سارعت إلى مساندة النظام المصري المستجد. بالمقابل فإننا لم نلحظ توجها جادا لمخاطبة الشعب المصري لاستدعاء طاقاته وتوظيفها للإسهام في استعادة عافية الاقتصاد وتحريك مياهه الراكدة. الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إن التطلع إلى الخارج في حل المشكلة الاقتصادية لا يزال متقدما كثيرا على جهد الاستعانة بالداخل. اللقطة الكاشفة في هذا الصدد تمثلت في اللغط الذي أثير في وسائل الإعلام المصرية في أعقاب نشر تصريح للشيخ منصور بن زايد نائب رئيس الوزراء مصدر شؤون الرئاسة في دولة الإمارات العربية نسب إليه قوله إن على مصر أن تعتمد على نفسها في تقوية اقتصادها من خلال حلول مبتكرة وغير تقليدية، وأن الإمارات حريصة على إنجاح الشراكة الاقتصادية معا، إلا أن استمرار المساعدات إلى ما لا نهاية يبدو خيارا غير منطقي، وهو ما اعتبرته في حينه نصيحة مخلصة من رجل دولة مسؤول أراد أن ينبه إلى أن دولة كبيرة مثل مصر تعداد سكانها 90 مليونا لا تستطيع أن تعتمد في اقتصادها على المعونات الخارجية، خصوصا أنها تنفق كل أسبوع سبعة ملايين دولار على الاستيراد من الخارج، وأنها مدينة الآن بما يعادل 2 تريليون جنيه، تدفع عنها فوائد سنوية بما يعادل 240 مليار جنيه، بمعدل مليار جنيه لكل يوم عمل. هذا التصريح تم نفيه بعد نشره في وسائل الإعلام، وحين رجعت إلى الدكتور حازم الببلاوي رئيس الوزراء الذي كان وقتذاك في زيارة لأبو ظبي على رأس وفد اقتصادي حكومي، فإنه نفى صدور الكلام عن الشيخ منصور بن زايد، وقال إنه هو من عبر عن ذلك المعنى حين قال إن اقتصاد مصر لن يتعافى إلا استنادا إلى سواعد أبنائها، إلا أن تصويت الدكتور الببلاوي لم يوقف اللغط الإعلامي (لم تشر إليه وسائل الإعلام). ذلك أنني تابعت حوارا جرى بثه تلفزيونيا، حرص مقدموه على التأكيد على أن الإمارات سوف تستمر في دعم الاقتصاد المصري إلى أن يتعافى. وكأنما تلك كانت الرسالة التي أريد لها أن تصل إلى المشاهد المصري. وهو ما علقت عليه بالتساؤل عما إذا كانت تلك الرسالة تطمئن المشاهد أم تؤرقه وتقلقه. (4) الأسطورة الرابعة تتمثل في الاعتقاد بأن إسرائيل تقف على مسافة من المشهد المصري وأنها تقوم بدور المتفرج عليه. وذلك وهم كبير، إذ إن رغم أن إسرائيل تتكتم على دورها المباشر وغير المباشر في الأحداث التي شهدتها مصر قبل الانقلاب، إلا أن دورها مشهود في الدفاع عن النظام المصري في مجلس الشيوخ وفي كواليس البيت الأبيض، ومنشور على الملأ انتقادها للقرار الأمريكي الخاص بحجب جانب من المعونات الاقتصادية، أما حماس معلقيها لدعم النظام، استلفت انتباهي في هذا الصدد ما كتبه واحد من أبرز الكتاب الإسرائيليين رون بن يشاي المعلق العسكري لموقع واي نت، وقال فيه إن على إسرائيل عمل المستحيل لإنجاح الانقلاب، الذي حدث في مصر، لأسباب ثلاثة عرضها على النحو التالي: ــ إن الانقلاب سمح بنشوب حرب ضد كل الذين يحاولون إعادة الإسلام إلى صدارة العالم. ــ إنه جعل مصر على رأس الدول التي تخوض مواجهة مفتوحة ضد قوى الجهاد العالمي التي تهدد مصالح إسرائيل. ــ إفشال الانقلاب يعني حرمان الغرب من تمتع الطيران الحربي من استخدام الأجواء المصرية ــ والتوقف عن منح حاملات الطائرات الأمريكية الأفضلية لدى الإبحار في قناة السويس، وهو ما يشكل أيضا ضررا بالمصالح الإسرائيلية. أضاف رون بن يشاي أنه لأجل ذلك يتعين على الغرب أن يضخ مليارات الدولارات لمنع حدوث انهيار اقتصادي في مصر يؤجج مشاعر السخط والغضب ضد حكم العسكر. وفي رأيه أنه من المهم للغاية أن يركز الاستثمار في البداية على دعم الجيش والأجهزة الأمنية التي تتولى مهمة قمع المتطرفين. وقد ختم تعليقه بقوله إن إسرائيل يجب ألا تخجل من دورها في دعم حكم السيسي، لأنها بذلك تقوم بنفس الدور الذي تؤديه دول الخليج والأردن. ليست هذه كل الأساطير الرائجة في زماننا، ولكن القائمة طويلة، لأن الأجواء المخيمة ما برحت تطرح لنا أسطورة جديدة بين الحين والآخر، وربما تتيح لنا التطورات المتلاحقة أن نعود إلى الموضوع مرة أخرى.