17 سبتمبر 2025
تسجيلتواجه النخبة المصرية أزمة طال تجاهلها، ومن مصلحة القيم الليبرالية وقبل ذلك من مصلحة الوطن أن يفتح ملفها كي تكشف الأوراق وتوضع النقاط على الحروف.(١)حين انتهى الباحث من أطروحته للماجستير وتحدد موعد مناقشة الرسالة، رشح للمناقشة أحد المراجع المختصين بالشأن الإسلامي لكن المسؤول الجامعي الكبير اعترض على الاسم وشطبه من القائمة، حينئذ رشح صاحبنا مرجعا آخر للقيام بالمهمة، لكن الرجل شطبه بدوره. وعندما رشح له اسما ثالثا من أهل الاختصاص فإنه ظل على موقفه الرافض، وعبر عن رأيه قائلا إنه لا يريد ذلك النوع من البشر.المرفوضون الثلاثة من العلماء المرموقين الذين لم يكونوا من الإخوان يوما ما، لكنهم احتفظوا باستقلالهم طول الوقت، فاختلفوا واتفقوا مع بعض سياساتهم. ولم يصبحوا خصوما لهم، ولا شاركوا في حملة سبابهم بعدما تغيرت الريح لغير صالحهم، إلا أن استقلالهم لم يشفع لهم، ولا جدارتهم العلمية كانت كافية لاعتمادهم، أما المسؤول الجامعي الكبير فإنه يقدم بحسبانه أحد رموز الفكر الليبرالي ودعاة المجتمع المدني.القصة ليست حالة فردية ولا استثنائية لكنها تعبير عن ظاهرة عامة في مصر تتجلى فيها واحدة من أبرز قسمات المشهد السياسي الراهن، ولدى عشرات القصص المماثلة التي تعبر عن نفس الحالة في العديد من المجالات، وبوسع أي مواطن أن يدرك هذه الحقيقة إذا ما دقق في مرايا المجتمع ليتأكد بسهولة من أن «ذلك النوع من البشر» قد اختفى تماما من الصورة. لا أتحدث هنا عن موقف السلطة وأجهزتها الرسمية، ذلك أن أغلبيتها الساحقة تصرفت ــ ولا تزال ــ بذات المنطق الذي عبر عنه المسؤول الجامعي. فأنشطتها وحلقاتها وبياناتها صارمة في التزامها بسياسة الإقصاء لذلك النوع من البشر، حتى في النداءات التي تصدر عن ذلك الفريق من النخبة مطالبة بإطلاق سراح السجناء السياسيين، فإنها لا تتحدث عن عموم المظلومين، لكنها تخص بها جماعتهم وتتعمد تجاهل ذات النوع من البشر، وهو ما يثير أسئلة كثيرة تدعو إلى إعادة النظر في تعريف النخبة وما تمثله ومدى صدقها في التعبير عن القيم النبيلة التي ما برحت تتحدث عنها.(٢)دون الدخول في جدل تعريف النخبة الذي يجيده أساتذة علم الاجتماع السياسي، فإننا نستطيع أن نقول إن الحديث عنه ينصرف إلى القلة التي تقود الرأي العام وتؤثر فيه، سواء بنفوذها المعرفي أو السياسي، أو بقدراتها الاقتصادية أو من خلال حضورها المشهود في وسائل الإعلام. بوسعنا أيضا أن نقول بأن دور النخبة المصرية أو تمايزاتها لم تظهر في ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، بسبب قوة الإجماع الشعبي ووضوح الهدف المتمثل في إسقاط نظام مبارك أو بسبب ضعف حضورها في الشارع، لكن بذرة التمايز في المواقف ظهرت مع طرح فكرة التعديلات الدستورية في شهر مارس من عام ٢٠١١، التي كانت اجتهادا استهدف ترسيخ قواعد الديمقراطية ووضع دستورا جديدا بواسطة لجنة تأسيسية منتخبة من مجلسي الشعب والشورى. أثار تشكيل اللجنة التي رأسها المستشار طارق البشري لغطا من جانب مثقفي التيار العلماني. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك اللغط كان بمثابة أول شرخ في محيط نخبة الجماعة الوطنية المصرية بعد الثورة. إلا أن الشرخ اتسع حين أجريت الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر من العام ذاته (٢٠١١). ذلك أن التنافس الانتخابي جرت صياغته باعتباره صراعا بين التيارين المدني والديني. وكان ذلك بمثابة غطاء للتجاذب التقليدي بين التيارين الإسلامي والعلماني، الذي احتفظ بتلك التسمية حين كان التنافس على الصعيدين الفكري والسياسي. أما حين تطور الأمر بحيث صار على مشارف الاحتكام إلى الجماهير العريضة من خلال الاستفتاءات والانتخابات، فقد اقتضت الملاءمة استخدام ذلك الغطاء مراعاة لحساسية الجمهور سيئ الظن بمصطلح العلمانية.التسمية الجديدة أعادت إلى الأذهان فكرة الفسطاطين الشائعة في أوساط الجماعات السلفية والجهادية، محملة بالإشارات إلى معسكري الأخيار والأشرار. وحين أطلق المصطلح في الفضاء السياسي بعد الثورة، فإنه أسس لصياغة العلاقة بحسبانها صراعا بين تيار الأخيار الذي يمثله التيار المدني ونقيضه المتمثل في التيار الديني.أيا كان تقييمنا للوقائع التي شهدتها تلك المرحلة، وأكثرها لم تسمع فيه سوى وجهة نظر واحدة، فالشاهد أن الشرخ الذي حدث بين التيارين تحول إلى جدار شاهق. الأخطر من ذلك أن التنافس تحول إلى صراع على الوجود. وشكلت تظاهرة ٣٠ يونيو التي خرج فيها جمع غفير من البشر نقطة تحول فيه. إذ احتشد المنسوبون إلى التيار المدني باختلاف أطيافهم، في مواجهة مكونات التيار الديني وفي المقدمة منهم الإخوان بطبيعة الحال. وحين التف الأولون حول القوات المسلحة التي تصدرت المشهد آنذاك مؤيدة بالشرطة، فإن هزيمة الأخيرين أصبحت واجب الوقت.(٣)الخروج الذي تم في ٣٠ يونيو ٢٠١٤ اختلف بصورة جذرية عن خروج الجماهير في ٢٥ يناير ٢٠١١، ففي يناير خرجت الأمة مجتمعة في مواجهة نظام مبارك، وفي ٣٠ يونيو قاد تحالف فصائل التيار المدني مع الجيش والشرطة شريحة عريضة من الجماهير لمواجهة حكم الإخوان وما سمي بالتيار الديني. وحين تغيرت الخارطة السياسية على ذلك النحو برزت ثلاثة عوامل مهمة في المشهد، الأول أن الصراع الذي كان في السابق تنافسا فكريا وسياسيا بين الإسلاميين والعلمانيين أصبح صراعا على السلطة اصطف فيه الأخيرون مع الجيش والشرطة، الثاني أن فصائل التيار المدني أجلت بصورة تلقائية شعاراتها والقيم التي دافعت عنها طوال السنوات التي خلت لكي تنصرف إلى كسب المواجهة. العامل الثالث إن المواجهة اتخذت طابعا استئصاليا، بمعنى أنها لم تستهدف معاقبة الآخر وهزيمته سياسيا، وإنما سعت إلى إخراجه تماما من المشهد السياسي والشطب عليه وإلغائه بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك.التحالف بهذه الصورة بدا مفهوما ومقتضياته لم يكن منها مفر، فالقوى المدنية التي ظلت نخبوية بالأساس ومفتقدة إلى القواعد الجماهيرية عولت على قوة الجيش والشرطة، ولكي يتحقق التلاقي فإنه استلزم تقديم تنازلات من جانب الليبراليين والقوميين واليسار ومن لف لفهم، وجاءت تلك التنازلات على حساب شعارات الديمقراطية والتعددية ومبادئ حقوق الإنسان والمجتمع المدني والفصل بين السلطات وغير ذلك من مستلزمات الإجماع الوطني والحكم الرشيد، حدث ذلك باسم «الضرورة» تارة وإعلاء لشعار «لا يعلو صوت فوق صوت المعركة» تارة أخرى.حين قدمت فصائل التيار المدني تلك التنازلات طائعة، فإنها من الناحية العملية تخلت بصورة تدريجية وربما دون أن تشعر عن مبادئ ثورة يناير ذاتها، التي اختزلتها شعارات العيش والحرية والكرامة الإنسانية، بل ولم تنتبه إلى أن الآخر المستهدف لم يكن التيار الديني وحده كما بدا في ظاهر الأمر، وإنما ثورة يناير والربيع العربي كله. إذ خرجت من مربع التحالف المذكور العديد من السهام الجارحة والمسمومة التي سعت إلى النيل منهما. وتلك صفحة من التاريخ لا تزال بعض وقائعهما محاطة بالغموض، خصوصا في شقها المتعلق بدور القوى الإقليمية التي دخلت على الخط وعملت على تأجيج الصراع وقلب موازينه.ثمة استدراك واجب هنا، إذ من الإنصاف أن نسجل لبعض النماذج الاستثنائية من عناصر التيار المدني رفضها الانخراط في مسار التنازلات المبدئية التي قدمها غيرهم، وكانت المنظمات الحقوقية المستقلة والاشتراكيون الثوريون على رأس هؤلاء ومعهم عدد آخر محدود من المثقفين المحترمين.(٤)إذا اتفقنا على أن العبرة بالمآلات، فإن ما ينبغي أن يستوقفنا في الواقع الراهن على الأقل، ليس من أخطأ أو من أصاب ولا من انتصر أو هزم، إذ إن أكثر ما يهمنا هو ما أفضى إليه كل ذلك، يعيننا على إدراك هذه النقطة نصان أحدهما نشرته صحيفة لوموند الفرنسية لفيلسوف إيطالي، والثاني نشرته صحيفة هاآرتس لكاتب إسرائيلي ما تمنيت أن أستشهد بكلامه، لكنني وجدته مفيدا.نص الفيلسوف الإيطالي جورجيو اجامبين نشر في ٢٤/١٢/٢٠١٥ في أعقاب تمديد الطوارئ في فرنسا تحسبا للعمليات الإرهابية، وهو بمثابة رسالة اعتراض وتحذير، انطلقت من التأكيد على أن الطوارئ لا تحمي الديمقراطية ولكنها مدخل إلى الاستبداد، استشهد الرجل في ذلك بالتجربة الأوروبية، التي عرفت الطوارئ والقوانين الاستثنائية في ظل الحكومات الاشتراكية الديمقراطية التي قامت في «جمهورية» فايمار الألمانية قبل استيلاء هتلر على السلطة في عام ١٩٣٣، وكان أول إجراء اتخذه بعد تكليفه بالمستشارية أنه مدد الطوارئ ولم يتراجع عنها طوال سنوات حكمه، وترتب على ذلك أن العمليات البوليسية حلت بصورة تدريجية محل السلطة القضائية، ومن ثم تراجعت دولة الحق أمام دولة الأمن. وهو ما أيده فقهاء القانون النازيون الذين أقاموا علاقة الدولة بالمواطنين على أساس الخوف، وهو ما دعا السلطة في هذه الحالة إلى الاستمرار في إنتاج الرعب أو تركه ينتشر بغير معوق. إذ في ظل الخوف تشيع الحيرة والبلبلة بين الناس ويزداد شعورهم بالحاجة إلى الاحتماء بالسلطة وتبرير ممارساتها. ولكي تفرض دولة الأمن سلطانها على المجتمع فإنها تستمر في الحديث عن الحرب التي تخوضها ضد أعداء مبهمين (المؤامرة ــ استهداف ــ الإرهاب) وتعتمد في إشاعة التخويف على بيانات الشرطة وما تبثه وسائل الإعلام، وهي الأجواء التي تسوغ إدامة الاستبداد والانقلاب على الديمقراطية.النص الثاني نشرته هاآرتس في ٣٠/٣/٢٠١٦ لكاتب اسمه ب. ميخائيل. ومقالته مكرسة للتنديد بالفاشية التي تنتهجها إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين. إذ يذهب في ذلك إلى التذكير بأن إقامة الفاشية تقتضي مرور المجتمع بمرحلتين أساسيتين، أولاهما نزع الصفة الإنسانية الكاملة عن «الآخر»، وذلك بتحويله إلى حيوان خطر يمشى على قدمين، وقد تم إنجاز تلك المرحلة بنجاح في إسرائيل، بحيث أصبح الفلسطيني مثل الصراصير الموجودة على الأرض التي يجب الدوس عليها بالأحذية أو إبادتها بأي وسيلة أخرى، بعد مرحلة «الشيطنة» تستكمل الفاشية مقوماتها بالدخول في مرحلة «الاستباحة»، ذلك أن النجاح في الشيطنة يحلل على الفور الانتقال إلى ممارسة استباحة الآخر إلى أبعد مدى، بسلب كل حقوقه وإهدار دمه ونهب ممتلكاته.حين يتابع المرء تلك الأفكار يلاحظ أنها تكاد تصنف المرحلة التي تمر بها مصر في الوقت الراهن مع فارق واحد، هو أن من يطلقها ينطلق من موقع ليبرالي واضح، في حين أن أغلب الليبراليين واليساريين في مصر يقفون في الموقف المعاكس، الأمر الذي ينبهنا إلى أحد جوانب الأزمة المحزنة التي نعاني منها.