17 سبتمبر 2025
تسجيلمحافظ البنك المركزي المصري ذكرنا بقصة الطبيب الذي طمأن أهل المريض على نجاح الجراحة التي أجراها، ثم أعرب عن أسفه لأنه مات. ذلك أن المحافظ فعل نفس الشيء، إذ نجح في وقف مزايدات تجار الصرافة على الدولار، لكنه قتل السوق، وحين أراد أن يحاصر الذين يتلاعبون بالدولار فإنه جعل كل من أدخل حفنة دولارات إلى مصر يندم على «الحماقة» التي ارتكبها، ليس ذلك فحسب، لكنه أيضا وضعنا أمام مفارقة محيرة، إذ في حين أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي كان بمثابة دعوة عالية الصوت لجذب الاستثمارات والترحيب بها في مصر، فإن القرارات التي أصدرها مضت باتجاه معاكس تماما، إذ كانت بمثابة حملة «ناجحة» لطرد الاستثمارات وتحذيرها من عواقب القدوم إلى مصر.القصة متداولة على ألسنة كل من له علاقة بالسوق أو له حساب بالعملة الصعبة في البنوك المصرية، إذ ما عاد يسمح له بسحب أو إيداع أكثر من عشرة آلاف دولار في اليوم، بحد أقصى خمسين ألف دولار في الشهر، وهذا القرار أصاب بالشلل كل المستثمرين الذين يستوردون أو يصدرون سلعا أو يحتاجون إلى خامات أو ماكينات من الخارج، ويتعاملون في عدة ملايين من الدولارات كل شهر، كما أنه سبب مشكلة عويصة لكل أصحاب المصالح خصوصا المرضى الذين تتجاوز نفقات علاجهم الحدود المعلنة. وفي هذه الحالة فإن بعض تجار العملة أصبحوا يوفرون المبالغ المطلوبة للراغبين في الخارج، بعد دفع مقابلها المصري في داخل البلاد بزيادة ٥٪ على الأسعار المقررة. وسمعت من بعض الأجانب الذين يمثلون شركات ومؤسسات بالخارج أن شركاتهم لا تعتمد هذا الأسلوب، وأن مثل تلك المقايضات يتعذر تسجيلها في حساباتهم المالية.حدثني البعض أيضا عن أزمة كبرى يواجهها الليبيون والسوريون الذين حملوا معهم أموالهم إلى مصر، وقرروا أن يستقروا فيها بعدما طال أمد الفوضى والاضطرابات التي ضربت الاستقرار في بلديهم. منهم من اتجه إلى إقامة مشروعات ومنهم من عزم على شراء عقارات لسكناهم هم وعائلاتهم. هؤلاء جميعا أصبحوا يواجهون أزمة لم تخطر لهم على بال، ذلك أنهم ما عادوا قادرين على سحب الأموال التي جلبوها معهم إلى مصر لتنفيذ مشروعاتهم أو شراء العقارات. وفي الوقت ذاته فإنهم ما عادوا قادرين على إخراجها من مصر إلى أي بلد آخر، وهو ما أثر بالسلب على فرص الاستثمار وعلى سوق العقار الذي أصيب بالركود. وما فعلوه أنهم جمدوا مشروعاتهم، ونصحوا غيرهم بألا يكرروا الخطأ الذي وقعوا فيه. وفي الوقت الراهن على الأقل فإن تركيا صارت البلد الأكثر جذبا لهم، ذلك أنها تستقبلهم بغير تأشيرات دخول، وبغير قيود على إدخال الأموال أو إخراجها.أدري أن القيود التي فرضها البنك المركزي أوقفت الزيادة في سعر الدولار، وقلصت إلى حد كبير الفرق بين سعره في محال الصرافة وسعره في البنوك. وقد قرأنا تصريحا نشر على لسان السيد هشام رامز محافظ البنك المركزي ذكر فيه أنه نجح في القضاء على السوق السوداء خلال ٤٨ ساعة، وهو بالضبط ما فعله الطبيب سابق الذكر الذي تباهى بنجاح العملية الجراحية التي أجراها. إلا أن السيد رامز لم يشر إلى ما جرى للسوق بعد ذلك وما أصاب حركة الصرف وسمعة الاستثمار في مصر جراء «النجاح» الذي أحرزه، في حين أن الطبيب لم يستطع أن يخفي أن مريضه مات بعد الجراحة!.سألت من أعرف من خبراء الاقتصاد الذين آثروا عدم ذكر أسمائهم، فكان رأيهم أن تحليل المشكلة كان خطأ من البداية، وأن ما ترتب على ذلك جاء خطأ بدوره. وفي تحليلهم أن الأزمة الاقتصادية ظهرت في مصر نتيجة تراجع مواردها من النقد الأجنبي بعد ثورة ٢٠١١. إذ ضربت السياحة وتوقفت الاستثمارات الأجنبية. وإزاء شح هذه الموارد فإن الاقتصاد لا يجد أمامه عادة سوى خيارين اثنين، فإما أن يقلل من مصروفاته أو أن يسعى جاهدا لزيادة دخله عن طريق تنشيط القطاع الإنتاجي ورفع كفاءته لزيادة تصديره إلى الخارج. لكن ما حدث أننا لم نتخذ خطوات جادة على هذين الصعيدين. إذ لا تزال المصروفات تحتاج إلى ضبط ومراجعة، كأن يوقف مؤقتا استيراد السلع الكمالية التي تغرق الأسواق (الأطعمة الفاخرة والأجبان التي لا تحصى أنواعها وأكلات القطط والكلاب نموذج لذلك) كما أن القيود المفروضة لا تسمح بزيادة الإنتاج أو تحسينه، حيث يتعذر ذلك في ظل القيود المفروضة على شراء الخامات والماكينات، الأمر الذي لا يشجع أي مستثمر على أن يطور إنتاجه لكي يجذب المستهلك المحلى والمستورد الأجنبي.لست في وارد اقتراح الحلول، لأنني لست مختصا بالموضوع، لكنني أنقل آراء أهل الخبرة بالسوق أو بالاقتصاد، خصوصا، أنني صرت أسمع شكاواهم وانتقاداتهم حيثما ذهبت. ما أثار انتباهي ليس فقط أن القرارات التي اتخذت لم تؤد إلى ارتباك السوق وإصابته بالشلل، ولكن أيضا أنها لم تلق ما تستحق من دراسة وتمحيص من جانب أهل الاختصاص والخبرة قبل صدورها. وإذا صح ذلك فإنه ينقل المناقشة إلى مستوى آخر يثير قضية أكبر مثارة في المجال العام، تتمثل في التساؤل حول آلية إصدار مثل تلك القرارات التي تهم مستقبل السوق والبلد، أين تناقش ومن يشارك في المناقشة وهل تؤهله خبرته لذلك أم لا؟ ــ إلى غير ذلك من الأسئلة التي باتت تتردد كثيرا في فضاءات الاقتصاد والسياسة دون أن يجيب عليها أحد!.