18 سبتمبر 2025

تسجيل

كي نجفف منابع الإرهاب

01 مارس 2014

أهم صورة خرجت من أوكرانيا في الأسبوع الماضي كانت لعناصر وحدة مكافحة الشغب وقد ارتدوا زيهم الرسمي وجثوا على ركبهم وأحنوا رؤوسهم أمام الثوار. وقد ظهروا على تلك الهيئة لكي يقدموا اعتذارهم إلى جموعهم المحتشدة ويطلبوا الصفح عما ارتكبوه بحقهم. وكان المشهد بمثابة اعتراف من جانب الشرطة بمسؤوليتها عن قتل نحو ثمانين من أولئك الثوار الذين اعتصموا بالعاصمة كييف. أثناء تنفيذ التعليمات التي صدرت لهم بقمع الثوار وفض الاعتصام. وهو المسعى الذي فشل وانتهى بإسقاط النظام القائم وهروب رئيسه فيكتور يانكوفيتش.الصورة نشرتها صحيفة «الشروق» يوم الخميس الماضي (27-2). كما تناقلتها مختلف مواقع التواصل الاجتماعي في مصر. وبدا أنها تحظى بدرجة عالية من المشاهدة والتداول في العديد من الأقطار العربية. لأسباب مفهومة لعلى لست بحاجة إلى شرحها. وقد شاء حظي أن أراها في ذات الصباح الذي نشرت فيه الصحف المصرية نبأ تثبيت اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية الحالي في منصبه. وهو من عين في منصبه في بداية يناير 2013 وسالت في عهده أكبر نسبة من دماء المصريين وقتل أكبر عدد منهم بعد الثورة.لم يكن هناك مفر من المقارنة. ذلك أنني اعتبرت المشهد سلوكا حضاريا محترما. أعلن انتصار الثورة. واعتراف الشرطة بخطئهم. وتم بمقتضاه التصالح بين الطرفين بما يمهد الطريق لفتح صفحة جديدة في العلاقة بينهما- ذلك في القدر الذي يخصهم. أما فيما يخصنا فقد لاحظت أن الشرطة فعلت ما فعلته هناك لشعورها بالذنب إزاء قتل 80 مواطنا خلال أشهر الاعتصام الذي دام ثلاثة أشهر. في حين أن ذلك رقم يقل عن حصيلة يوم واحد في الثورة المصرية. لأن المصادر الحقوقية المستقلة (موقع ويكي ثورة) سجلت في الذكرى الثالثة للثورة وحدها (25 يناير 2014) حصيلة ضمت 103 قتلى، أسماؤهم موجودة على الموقع. لم تكن تلك هي المقارنة الوحيدة؛ لأن الصورة نشرت في ذات الأسبوع الذي برأت فيه محكمة جنايات الإسكندرية مدير الأمن بالمحافظة هو وخمسة من قيادات الشرطة من تهمة قتل شباب ثورة يناير 2011. معتبرة أنهم فعلوا ما فعلوه «دفاعاً عن النفس». وزفت إلينا صحيفة «التحرير» في 23/2 البراءة رقم 42 لضباط الشرطة. في حين قالت صحف أخرى إنه من بين 32 قضية اتهمت الشرطة بالقتل في عشر محافظات. فإن القضاء حكم ببراءة الجميع في 27 قضية وبالحبس في اثنتين فقط وبإيقاف التنفيذ في ثلاث. وإذا اعتمدنا على بيانات موقع «ويكى ثورة» فإن الذين قتلوا من شباب الثورة خلال انطلاقتها الأولى التي أدت إلى تنحية مبارك عن السلطة وأولئك الذين قتلوا أثناء فترة حكم المجلس العسكري وهؤلاء عددهم 1413 شخصا لم يحاسب أحد على ما حل بهم. باستثناء ثلاثة فقط من رجال الشرطة. مع العلم بأن تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلت في بداية الثورة برئاسة المستشار عادل قورة أثبتت بعبارات صريحة وقاطعة مسؤولية الشرطة عن جميع عمليات القتل والقنص التي وقعت أثناء الثورة. أما الذين قتلوا بعد ذلك في عهد الدكتور محمد مرسي (470 شخصا) وفي المرحلة التي أعقبت عزله فقد رصد منهم خبراء الموقع حتى 11 نوفمبر الماضي 2665 قتيلا. بمجموع 3135 شخصا. فهؤلاء لم يحاسب على قتلهم أحد من رجال الشرطة. وبإضافة الذين قتلوا في الذكرى الثالثة للثورة. فإن الحصيلة الكلية للقتلى تصبح نحو خمسة آلاف شخص. برئت الشرطة من دمائهم وبالتالي فلا أحد يعرف من قتلهم.لا نستطيع أن نتجاهل أنه في مقابل هؤلاء فقد تعرض عشرات من ضباط الشرطة وجنودها قتلوا بدورهم في المواجهات مع المتظاهرين أو في حوادث إرهابية أخرى. إلا أنا لم تعرف على وجه الدقة من قتلهم. لا غرابة والأمر كذلك، أن تتسم العلاقة بالتوتر والخصومة بين الثوار والمتظاهرين من ناحية وبين الشرطة والمؤسسة الأمنية من ناحية ثانية. وهذه الخصومة ستظل مستمرة للأسف البالغ طالما لم يحاسب المسؤولون عن القمع والقتل. حتى أزعم أن محاسبة أولئك تظل من دلائل انتصار الثورة. وما لم تتحقق تلك المساءلة فإن ذلك الانتصار سيظل منقوصا.لا يقف الأمر عند ذلك الحد. ليس فقط لأنه ما من ثورة تولد كاملة الأوصاف. ولكن أيضاً لأن تلك الخصومة لها تداعياتها التي ستظل عنصرا مهددا للسلم الأهلي طالما بقيت الجراح مفتوحة والمحاسبة غائبة. ذلك أن دماء الضحايا في هذه الحالة تظل طرية طول الوقت. وفي طراوتها فإنها تغذي مشاعر الثأر الذي تتعدد أشكاله. ليس ذلك فحسب وإنما هي أيضاً تتحول إلى بؤر تفرخ التطرف والإرهاب. يساعد على ذلك أن الإنترنت صار معلما مجانيا لمن يريد أن ينخرط في ذلك المسار. وقد نشرت الصحف المصرية خلال الأسابيع الأخيرة أقوال بعض الشبان المتهمين في قضايا الإرهاب الذين شهدوا بأنهم تعلموا صناعة المتفجرات وتجهيز القنابل من صفحات المواقع الإلكترونية.لا يستطيع أحد أن يدافع أو يبرر تلك الممارسات التي تستهدف رجال الشرطة وعرباتهم ومعسكراتهم في أنحاء مصر يوما بعد يوم. ولئن كان محاسبة الذين يتورطون في تلك الممارسات واجبا بالقانون. فإن تفهم العوامل التي دفعتهم إلى ذلك أوجب لا لكي نبرئهم ولكن لكي نجفف منابع الإرهاب والبؤر التي تفرخه. لقد برأت المحاكم الشرطة من قتل المتظاهرين. إلا أن تبرئة المجتمع لهم تظل ضرورية أيضا. وما لم يتحقق ذلك فإن الخصومة ستظل مستمرة باختلاف تداعياتها.