09 نوفمبر 2025
تسجيلستظل سنة 2011 منارة حضارية على مدى عقود قادمة فهي التي شهدت انهيار منظومتين جائرتين نشأتا تقريبا في نفس اللحظة التاريخية مع نهاية الحرب العالمية الثانية منذ خمسة وستين عاما. المنظومة الأولى هي ما يطلق عليه نظام بريتن وودس (اسم القرية الأمريكية التي شهدت توقيع اتفاقية النظام النقدي العالمي الراهن بين عالم الاقتصاد البريطاني كاينس وكاتب الدولة الأمريكي للمالية وايت يوم 22 يوليو- جويلية 1944) والمنظومة الثانية هي النظام الاستبدادي العربي الذي نشأ خجولا مع انقلاب اللواء حسني الزعيم في سوريا ثم ترعرع عملاقا مع انقلاب الضباط الأحرار في مصر بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر وانتقلت عدوى الانقلابات بسرعة إلى تونس حيث انقلب بورقيبة على ملكها سنة 1957 وانقلب عليه الجنرال زين العابدين بنفس الطريقة سنة 1987 وجاء دور العراق سنة 1958 ثم سوريا بلا انقطاع إلى آخر انقلاب على الدستور الذي أتى ببشار إلى السلطة عام 2000 وإلى اليمن السعيد منذ انقلاب المشير عبد الله السلال إلى وصول علي عبد الله صالح للحكم منذ 33 عاما ثم السودان باستمرار وليبيا حين انقلب ضابط شاب مجهول اسمه معمر القذافي على الملك إدريس سنة 1969 وقبلها الجزائر حين أقصي الرئيس بن بلا وجاء هواري بومدين سنة 1964 وعاشت موريتانيا مسلسلات الانقلابات وحكومات "الإنقاذ" المتعاقبة وكثرت محاولات الانقلاب في تونس والمملكة المغربية دون أن تؤدي إلى تغيير أنظمة الحكم. وهكذا استقرت في العالم العربي مشرقه ومغربه منظومة جائرة من الدول التي تنشأ في لحظة غفلة تاريخية ويصبح الهاجس الأول لرأسها هو الحفاظ على الكرسي مهما كانت الوسائل وضاعت مصالح الشعوب المغلوبة على أمرها والمقهورة في منظومة الاستبداد حيث حلت التعليمات محل القوانين وحلت عمليات التمديد والتوريث محل الجمهوريات المعلنة والمغشوشة واستعد رؤساؤها المخلدون لتمرير التركة وتسليم الشعوب للأبناء بل وللزوجات أحيانا كأنما تحولت الشعوب إلى قطعان غنم ترعى الكلأ يجوز توريثها وحل الأوفياء محل الأكفاء واعتلى المنافقون والجهلة سلم المناصب عوض المثقفين والوطنيين. وكاد اليأس يدب في مفاصل المجتمعات العربية بسبب طول مدد الحكم وتعود الناس على حياة الضنك والحرمان من حقوقهم وحرياتهم لولا هبت رياح تونسية غير متوقعة واستعادت تفعيل بيت شعر قديم لأبي القاسم الشابي شاعر تونس المتوفى سنة 1934 عن سن الرابعة والعشرين: إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر. و انهارت منظومة الظلم العربي كما انهارت منظومة الظلم العالمي فزلزل الدولار في الولايات المتحدة كما زلزل اليورو في الاتحاد الأوروبي وانتقلت عدوى المظاهرات إلى أثينا ومدريد وباريس وروما حيث رفضت الجماهير الغربية علاج أزمات اقتصاداتها بالترقيع والتلفيق والتقشف ونددت بضخ المليارات في موازين الدول المسحوقة بالديون أو في خزائن المصارف المفلسة والمتلاعبة بخبز وعرق الجماهير. إنه التقاء الغضب العربي بالغضب الغربي في المطالبة بمنظومتين جديدتين عادلتين تعوضان التقاليد البائسة الجائرة. والغريب أن الشباب العربي في سيدي بوزيد والقاهرة ومسراطة ودير الزور وصنعاء والشباب الغربي في باريس ومدريد وأثينا اكتشفوا أن الداء العميق والحقيقي هو استمرار فكر الاستبداد وتواصل نظام بريتن وودس وهما يلتقيان حول مشروع دولي قديم تقرر بعد انتصار الحلفاء على النازية ويقوم على اغتصاب الضمائر وطمس الحقائق وإقامة حكومة الظل في منهاتن المشكلة من الشركات العملاقة عابرة القارات والتي تتحكم في مصائر الأمم بتنظيم مسرحيات الديمقراطية الزائفة وتقنين عمليات السلب والنهب في دول العالم الثالث ومن بينها بعض الدول العربية بإنشاء وكلاء سلطة مؤتمرين بأمرها لا يدينون لشعوبهم بانتخابهم بل يدينون لأسيادهم في عواصم القهر بإبقائهم وتأييدهم في الحكم. ليس من الصدف أن يقرع عام 2011 أجراس النهاية أو بداية النهاية لمنظومتين ظالمتين مترابطتين جسدتا منذ ثلاثة أجيال انتصار القوة على الحق وجاءت أحداث 2011 لتكرس انتصار الحق على القوة. ونرى اليوم مثلا تغيير المعادلات والحسابات الإسرائيلية المعتمدة على البطش لتتحول العلاقات الدولية هي أيضا إلى فضاء جديد من استعادة الشعوب لحقوقها وحرياتها بفضل تضحيات شبابها. إنه المنعرج الأهم في مطلع هذا القرن.