11 نوفمبر 2025

تسجيل

"مِنْ نُور"

31 يوليو 2012

حينَ كنتُ في الثانوية العامة تعرفتُ على "نور"، زميلة لي بالصف، لم أكن أتقبل أن تَكون صديقتي رغم محاولاتها لأَن تكون، طوالَ تلكَ السنة. حتى جاءت نقطة التحول، إذ بلغنا نهاية العام وبدأت المعلمات في رصد درجات أعمال الفصل، وكانت الكرّاسة الصفية مهمة جداً إذ تُمثل درجة عالية من درجة أعمال الفصل، وما حدث أن فاجأتنا مُدَرسة الأحياء دونَ سابق تنويه أن اجمعن جميع الكرّاسات، فاليوم سأرصد الدرجات، ومن لا أرى كرّاستها اليوم ستحصل على "صفر". ارتعتُ جداً لأني لم أحضر الكراسة في هذا اليوم، ومع هذا تجاهلت الحقيقة وبحثتُ في حقيبتي المدرسية عن كرّاسة الأحياء لعلي وضعتها بين الكتب والدفاتر، ولكن لا فرار من الواقع. الكرّاسة لَيست معي. وليسَ لي غير الـ"صفر". لم أذهب لاتوسل المُدَرسة لتمنحني فرصة أخرى فأنا أعرف هذه المُدَرسة جيداً، كلامها لا يتبدل ولا يتغير. جلستُ في الصف، وزميلتي نور تَرقبُ حالتي، نور بكل هدوء ذهبت وسَلَمَتْ كرّاستها للمدرسة ثم رجعت أدراجها. سادت لحظات صمت حتى تُكمل المدرسة رصد الدرجات وتصحيح الكراسات. في نهاية الحصة، أخذت المُدَرسة تُنادي بأسماء الطالبات ليتسلمن دفاترهن، وتقول الدرجة التي رصدتها لكل طالبة، فبدأت تنادي بأسماء الطالبات بالترتيب الأبجدي، حتى وصلت إلى اسمي، صُعقت حينَ نادتني لأتسلم دفتري، وصُعقت حين سمعت أني حصلت على درجة كاملة! ذهبتُ لاتسلم الدفتر، الذي لستُ أدري من أينَ أتى؟ وكيف! وأنا أتحرك بالحركة البطيئة من هول الصدمة، سمعتُ من نور عبارة: "خذيه وأرجعي لا تقولين شيئا". وهكذا فعلت. حينَ تصفحتُ الدفتر لم يكن دفتري بالطبع، ولكن كان اسمي في مقدمته، علمتُ من الخط أنهُ خط نور، وأنا أقلب الكرّاسة يَمنةً ويَسرة، وصلت المُدَرسة لاسم نور وإذا بها تقول: "نور عدنان الشامسي، صفر "!! حينها شعرت بحجم الإيثار من تلكَ الإنسانة، وشعرتُ كم ظَلَمَتْ نفسها بهذه الفعلة، لم أتقبل أن أكون صاحبة الدرجة الكاملة وأنا من نسيت الكرّاسة وصاحبة الكراسة الحقيقية تأخذ "صفر". ألتفتُ الى نور وأنا متلونة بألوان غريبة، وجميع ملامحي تتكلم: "لم فَعلتِ ذلك!" ثم قلت: "حرام عليج تحصلين صفر!" فابتسمت ابتسامة جميلة وقالت لي: "ماعليج". المعجزة الربانية التي حدثت أن تلكَ المُدرسة الصارمة، قبلَ أن تَنصرف من الصف أخبرتنا أن الفتيات اللاتي لم يُحضرن دفاترهن سأمنحهن فرصة أخيرة حتى صباح الغد. ذلك الموقف الذي أطنبتُ في وصفه كان نقطة التحول في علاقتي بنور من الزمالة الى الصداقة، إذ أدركتُ رغم معارضتي لما فعلت، أنها أصيلة بحجم السماء. منذ ذلكَ الحين وحتى يومنا هذا أنا وهي ظللتنا صداقة حميمية، فنؤثر الخير لبعضنا البعض، وتواعدنا منذ المرحلة الثانوية أن يكون حبنا خالصا لله، فالحب في الله هو الرباط الأبقى والأدوم. وكتبتُ لها كلمات بخطي المعوج باتت تحفظها حتى يومنا هذا: "الشمسُ بعظمتها تغيب، والوردُ بجماله يذبُل، والشمعُ بتضحيته يَذوب، وجميع الأشياء في أفول، فالتغير سنة الحياة، لكنني أنا وأنتِ سنخالف السنة، ستبقى علاقتنا باقية وإن رحلنا سنلتقي بجنات النعيم". ووضعتُ عهوداً غليظة لتلكَ العلاقة، أساسها الحب في الله والنصح والإنجاز. نور ليست الصديقة الوحيدة التي بنيتُ معها صرح صداقة شامخ، لدي صديقات كُثر، وجميعهن تربطني معهن نفس الرباط، رباط الله في الصداقة، الذي نسيجهُ حب ونصح وعلم وفائدة. فحين نجتمع نجتمع لطاعة أو لعلم أو لإصلاح أمر، نجتمع كذلك للترفيه، الترفيه الرصين، ولكننا نحرص على أن تكون أغلب لقاءاتنا لقاءات الهمم والفائدة، فهذه هي الصداقة الحقة، التي تعينك على الرقي في الدنيا والآخرة. بعض الناس لا يؤمن بالصداقات، إذ انهُ لا يعرف كيف يحل معادلات الصداقة الخطية البسيطة، فيرى الغدر في كل صديق يقرَبُه، ولَعلَّ العيب هنا ليس في الأشخاص ولكن في الرباط الذي يَربطُ الأشخاص، وحين تنتهي العلاقات بالفشل، أدركُ يقينا أن الرباط لم يكن رباطاً ربانياً. أَتَفَكَرتَ يوماً في صَحبكَ؟ ونشاطاتكم حينَ اللقاء، وعهود الصداقة بينكما! حين تُجيب عن أسئلةٍ كَتلك سَتُدرك مستوى العلاقة وعمقها وأصالتها. وأنا أكتبُ سطوراً كهذه تذكرت النشيدة القديمة التي يحفظها غالب الناس: "أن تدخلني ربي الجنة.. هذا أقصى ما أتمنى.. وتهبني الدرجات العليا.. يارب.. يا لهنائي حين أُلاقي في الجنةِ صحبي ورفاقي.. فَرِحِينَ بنعم الخلاقِ..ياذا المنة..يارب". وهنا تُجبرني صداقاتي على أن أُغير البيت الذي يقول: "ما أكثر الاخوان حين تعدهم.. لكنهم في النائبات قليلُ" ليكون: "ما أكثر الاخوان حين تعدهم.. وجميعهم في النائبات عضيدُ" اللهم ارزقنا صحبة الأخيار لنكون على منابر من نور.. اللهم آمين.