16 نوفمبر 2025

تسجيل

عالم الأرواح.. مساحة للإيمان

30 مارس 2017

منذ القدم والإنسان يتساءل ويستفسر ويبحث عن ماهية الروح التي بين جنبيه، لا يدري كنهها ولا سرها، وهل كانت قبل الجسد أم خُلقت معه، ثم ماذا بعد فناء هذا الجسد...؟ إلى غير ذلك من أسئلة كثيرة ومتنوعة، تداولها الفلاسفة قديمًا وحديثًا وانضم إليهم المفكرون وعلماء النفس والأديان وغيرهم كثير كثير..جاء في البخاري عن عبد الله مسعود رضي الله عنه، قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، في حرث في المدينة، وهو متوكئ على عسيب (عمود من جريد النخل)، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. فقال بعضهم: لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد، ما الروح؟ فما زال متوكئًا على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.الإنسان كعادته يبحث عن المجهول والخفي، ولأن الروح من الأشياء المجهولة والتي ما زالت كذلك، تجد المرء منا لا يتوقف عن التساؤل والبحث عن هذا المجهول، وهو أمر، بادئ ذي بدء، جيد ومطلوب، فإن التفكر في خلق الله لا يقوم به إلا أولى الألباب، أصحاب العقول المفكرة الباحثة.في مقال الأسبوع الفائت تحدثنا عن اكتشاف الأطباء والعلماء لاكتشاف علمي جديد، مفاده أن الشحنات الكهربائية للدماغ تشهد نشاطًا كبيرًا حتى بعد توقف كافة الأجهزة الداخلية للإنسان، أو بعد الوفاة بدقائق معدودة، وفسروا ذلك بأن هذا النشاط ربما بسبب أمر خفي يحدث للإنسان حينها ويكون بالغ الأهمية والإثارة، وقالوا إن الحياة الدنيا ليست نهاية المطاف للإنسان أو لروحه إن صح التعبير.. وقد ذكرنا أن هذه الحقيقة يعرفها أي مسلم لم تلوثه عقائد فاسدة أو فلسفات لا معنى لها.مواصلة في الحديث عن هذا الموضوع، نقول إن الأرواح خلقها الله قبل الأجساد بوقت لا نعلمه، كما قال بعض المفسرين في شرحهم لقوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ"..إن الله جمع ذرية آدم في أول الخلق في أرواحهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. لكن أحدًا من بني آدم لا يتذكر هذا الميثاق.هذا يعني أن الأرواح كانت تعيش بطريقة ما في حياة معينة لها قوانينها، تتعامل مع بعضها البعض بصورة ما لا ندري كيفيتها. لكن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، أخبرنا بأن الأرواح في تلك الحياة، تلاقت وتعارفت مع بعضها البعض، فإما كان يحدث التآلف أو التناكر، كما في الحديث الصحيح (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).من الحديث يتبين أن عمليات التآلف والاختلاف بين الأرواح حدثت في حياة قبل حياتنا الدنيا الحالية، ودليل هذا ما يحدث بين أحدنا وآخر في حياتنا الدنيا، حين يتقابل للمرة الأولى، فيشعر بالتآلف من قبل أن يحدث أي نوع من الحديث، بل ربما أحيانًا قبل أن يلتقي به، وقد يحدث العكس فيقع التناكر وعدم التآلف حتى قبل التلاقي والتحادث.عمليات تلاقي الأرواح ما زالت مستمرة في حياتنا الدنيا، ولكن وقت المنام، حيث يحدث تلاقي الأرواح، سواء أرواح الذين توفاهم الله أو من لا يزالون على قيد الحياة، وهو ما نسميه بالأحلام أو الرؤى، بدليل قوله تعالى: "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".. وقد ذكر الطبري في تفسيره أن الله يقبض الأنفس حين موتها وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضًا التي لم تمت في منامها، وذكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى وذلك إلى انقضاء مدة حياتها.إن عالم الأرواح مساحة متاحة لتعميق الإيمان بـالله الواحد القهار، القادر على كل شيء. عالم من الأسرار وفي الوقت ذاته عالم باعث على الطمأنينة، وأن من فقدناهم من الأحباب، إنما فقدنا أجسادهم فيما أرواحهم لا تزال حية بصورة ما في حياة أخرى لها قوانينها ولا نعلم عنها كثيرًا، هي الحياة البرزخية.. حيث لا يمكن التواصل مع أرواح تلك الحياة، إلا أن يشاء الله أن يكون عبر التلاقي في المنام.. سائلين الله عز وجل الله أن يجمع أرواحنا بأرواح الصالحين والصديقين والشهداء في المنامات أولًا، ومن ثم يوم القيامة، في زمرة خير الخلق محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام.