08 نوفمبر 2025
تسجيلافتحوا يا قرائي الأعزاء أمامكم الآن خارطة جغرافية للعالم العربي في أكتوبر 2014 فستدركوا كما أدرك الخبراء و المحللون أن الدولة العربية بمفهومها الوطني و التي رسمت حدودها منذ معاهدة سايكس بيكو سنة 1916 إلى مرحلة تحرير الشعوب العربية من الاستخراب مرورا باستقلال لبنان عن سوريا الكبرى واستقلال السودان عن مصر هذه الدولة العربية هي اليوم في حالة احتضار و لعلها تموت في الأشهر أو السنوات القليلة القادمة فانظروا من حولكم قلب الشرق الأوسط التقليدي بجناحيه شام الأمويين و عراق العباسيين ثم اقلبوا النظر إلى اليمن مصدر كثير من قبائلنا الموزعة من الخليج إلى المحيط و بعد ذلك ارفعوا عيونكم إلى الإقليم المغاربي بليبيا التي كانت تربط جغرافيا و حضاريا بين مشرق الأمة و مغربها وستتأكدون من أن رمال أمتنا تتحرك و تذروها عواصف عاتية. في العراق (ماكو دولة) و لا أبالغ حين أقول أنه (ماكو دولة) منذ يوليو 1958 حين انقلب عبد الكريم قاسم بكتيبة من الجيش على الملك فيصل و أعدمه هو و أسرته و رئيس حكومته نوري السعيد رحمهم الله جميعا و نجا بجلده وزير الخارجية في عهد الملك محمد فاضل الجمالي و جاءنا إلى تونس في ضيافة بورقيبة و حمايته و طالما تحادثت معه و كان من الأصدقاء الخلص وهو من الموقعين على ميثاق منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 باسم مملكة العراق و أحيانا يقول لي : " أهملنا ربما مراقبة الجيش حين قيل لنا أن بعض الضباط يلعبون الورق في سهراتهم و يلتقون فلم نعر الأمر أهمية بينما هؤلاء كانوا يعدون انقلابا من صنف عبد الناصر لكن بشكل دموي". و منذ ذلك التاريخ دخل العراق أزمات سببها انعدام الدولة و ضياع ثقافة المؤسسات ليفتح حكامها أبواب تحزيب السياسة و في الحقيقة تخريب السياسة لأن التماسك القديم تحت راية ملك من أولاد الشريف حسين عوضته طواغيت متعاقبة ومتناسلة بعضها من بعض فاندثر مفهوم الحكم المركزي وهو الأفضل بعلاته ورشحت على السطح أشباح الطائفية و التطرف تملأ الفراغ و تنذر باستبداد "القائد الأوحد و الزعيم الملهم". و ها نحن اليوم بإزاء عودة التدخلات الأجنبية من كل حدب و صوب تحمي مصالح شعوبها و تدرك بأن لا حول لنا و لا قوة بل لا سيطرة لنا على مصائرنا. و لا تقل خريطة سوريا عن جارتها العراق خطرا و لا فوضى فنحن نشهد عاجزين كيف تخضع مدينة سورية من المفترض أن تكون تحت سيطرة الدولة السورية (كوماني) لتقاتل بلا هوادة بين الأكراد و جنود داعش بينما تربض حول المدينة دبابات و مدرعات الجيش التركي بلا تعليمات واضحة من حكومة أنقرة! لأن تركيا بعد انتخاب رجب طيب أردوغان أصبحت في حيص بيص حقيقي ومعقد فتركيا من ناحية هي عضو في حلف الناتو الذي تتزعمه أمريكا وهو يملي عليها تحركا يخدم مصالح دول الناتو و لا يخدم مصالح تركيا كقوة إقليمية و من ناحية ثانية تم انتخاب أردوغان على أساس برنامج سياسي و استراتيجي يقوي ارتباط تركيا بمحيطها المشرقي أي الإسلامي بل إن بعض الفصائل المتطرفة تنادي بالخلافة لأردوغان استحضارا لروح الخلافة العثمانية وهي بالطبع سياسة غير واقعية رغم شحنتها العاطفية والرحية فأردوغان اليوم مثل دباباته المعطلة على تخوم كوماني معطل و فاقد للمبادرة لأنه يعتبر كل تدخل عسكري سريع هو بمثابة هبة أوكسيجين تطيل عمر بشار الأسد و تمد لإي أنفاس نظامه! أما المؤكد فهو أن سوريا تعاني أيضا من موت الدولة الوطنية المركزية و تلتحق بنادي الشعوب الفاقدة للمؤسسات. و افتحوا يا قرائي الكرام صفحة اليمن لتوقنوا من موت الدولة الوطنية بعد جهود عقود بذلها اليمنيون لبنائها و شد لحمتها و توحيد شطريها فإذا باليمن يفقد دولته التي هي عروته الوثقى بعد الله و إلا كيف نفسر هذا الانتشار السريع للحوثيين من مجرد ميليشيات شيعية في شمال البلاد إلى قوة احتلال ممنهج للعاصمة و لأهم المدن اليمنية تحت شعارات استعادة الدولة و حماية المواطنين و التبشير بعهد جديد! فالذي يدور على الساحة اليمنية شديد الرمزية على موت الدولة و تعويضها بالفصائل المسلحة ذات الانتماء القبلي أو الطائفي و قد تبخرت أحلام بل أوهام الجيل السابق الذي التف ذات يوم 26 سبتمبر 1962 حول المشير عبد الله السلال ليطيح بحكم الإمام البدر و بدأت حرب أهلية بين الجمهوريين و الملكيين انتهت إلى حالة من الانشطار الخفي و النوايا المبيتة و الانقلابات المتعاقبة و هذه حال اليمن اليوم بين جيرانها تعيش أزمة دولة و تتقاذفها أعاصير العنف. و إذا قلبتم البصر نحو المعضلة الليبية في شمال إفريقيا فستجدون تأكيدا لنظريتي المتواضعة القائلة بموت الدولة الوطنية و قد اعتقدنا بسذاجة و قلة دراية بأن طي صفحة القذافي ستكون طالع سعد و تدشين عهد و ستبشر بإقامة دولة المؤسسات وحكم الدستور و القانون خاصة و أن الاعتبار بـ 43 سنة من حكم قائد الفاتح العظيم كانت تستدعي من الشعب الليبي استخلاص العبرة الأسطع وهي أن دولة الشخص إلى زوال و أنه لا بقاء إلا لدولة الناس جميعا و لكن الذي حصل هو تعويض حكم مجنون بلا حكم و تأبيد حالة الانفلات التي عمت البلاد زمن الثورة بالعجز عن جمع الأسلحة المكدسة و إجبار المواطنين على الامتثال للقانون فتفاقمت ظاهرة (البيك أب) الحامل لمدفع رشاش أو (أر بي جي) و استقلت كل قبيلة بإدارتها و نفطها و موانئها و مطاراتها و نحن في تونس قمنا بواجب استضافة إخوتنا الهاربين من جحيم العنف و تحملنا مصائب الأسلحة المهربة و تفاقم التهريب المسلح و تسرب الإرهاب من حدودنا و ارتكب حكامنا المؤقتون سامحهم الله (وعاقبهم الشعب في الانتخابات القادمة!) فسلموا البغدادي المحمودي رئيس الحكومة الليبية إلى عصابات مجهولة تدعي الشرعية و لم يجيروا من استجار بهم فاقتيد الرجل إلى ما سماه حكامنا المؤقتون "عدالة ليبيا الشقيقة" و أرجو من الله ألا يقتل الرجل على أيدي سجانيه و نحن لا نعرف سجانيه إلى اليوم فيكون دمه موزعا على رقاب الذين سلموه في غفلة من ضمائرهم و الله يعلم لماذا و كيف لأن تقاليد بلادنا منذ عهد الملوك هي أن نجير المستجير بنا حتى يبلغ مأمنه كما أمر الله خشية عقابه تعالى وهو أحكم الحاكمين. هنا أيضا في تونس رغم نجاحنا في اجتناب المهالك فإن الدولة الوطنية مهددة بأخطار عودة الاستبداد أو الانفلات الاجتماعي أو الخطر الليبي القريب منا يزعزع أمن التوانسة. لنكن جميعا موقنين بأن لا أمن و لا تقدم و لا مستقبل إذا ما انفرط عقد الدولة الحديثة العادلة و المتمسكة بالهوية و إلا سوف تحتضر الدولة و معها شعوبنا في انتظار هبة حضارية نفيق بها من سبات أهل الكهف!.