07 نوفمبر 2025

تسجيل

وصايا

28 ديسمبر 2014

من يقرأ وصايا الأدباء الذين رحلوا بعد مشوار طويل من الإبداع والمحطات المضيئة من العطاء في حياتهم، يجد هذه الوصايا مقطوعات أدبية فنية تزخر بعمق المعنى والإحساس ورغبات تبقى عالقة بين الكلمات والزخرفات الأدبية، حيث تبقى على مر الزمن نصوص أدبية جميلة تشبع فضول القراء الذي يحوم حول الرغبات الأخيرة لكتّابهم، تلك الوصايا بمعظمها قطع من الإبداع الأخير الذي ختموا به صفحاتهم، الكاتب الأديب "حنا مينة" نكتشف في وصيته لحظة الصراحة مع نفسه والآخرين، فقد بدأها في وصيته بالقول "كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أن أبصرت عيناي النور وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء وانتصرت عليه"، ويواصل: "رغبتي أن لا يحتفي بي ميــتـاً، أن لا يبكيني أحـــد ولا يحـزن علي أحـد وأن لا يقـام لي حفل تأبين، بل جنـازة بسيطة.. ويحمل أربعـــة أشخاص غرباء النعش من دائرة دفـن الموتى، ثم يهيـلـون عـلى التــــراب وينفضون أيديهم بعد ذلك، وكأن أمـرا لم يحصـل". ليس "مينة" الكاتب الوحيد الذي أوصى أن تكون جنازته ومراسم توديعه بسيطة، أوصى الشاعر الفلسطيني محمود درويش باكراً جداً في كتاب "ذاكرة للنسيان" الصادر في بيروت عام 1982 أن تكون جنازته حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوّه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة. كتابة الشعر التي أنست درويش كثيراً من تفاصيل الحياة، لم تنسه أياً من تفاصيل جنازته التي أراد أن تزينها "أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر. لا أريد اللون الوردي الرخيص ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت، أريد مذيعًا قليل الثرثرة، قليل البحة، قادرًا على ادعاء حزن مقنع، يتناوب مع أشرطة تحمّل صوتي بعض الكلام".ويختم درويش وصيته بقوله حسن أني وحيد... وحيد... وحيد... لذلك ستكون جنازتي مجانية وبلا حساب مجاملة، ينصرف بعدها المشيعون إلى شؤونهم اليومية". أما الكاتب الكولومبي الكبير الذي شكل بإبداعه مدرسة أدبية نادرة فقد جاءت وصيته كما أعماله الأدبية، لا ذكرا للأمور الشخصية ولا حتى لإرثه الأدبي، هي مجرد نص روحاني يخاطب كاتبه ربه من خلاله: "ربي، إذا حزت من الحياة على قطعة... فلن أدع يوما ينقضي من دون أن أخبر من أهواهم بأني أهواهم، سأثبت للرجال مدى خطئهم حين يفكرون أنهم سيكفون عن الحب عندما يشيخون، من دون أن ينتبهوا إلى أنهم يشيخون حين يتوقفون عن الحب".كثير مما ورد في وصايا الأدباء لم ينفذ، وأبرز رغباتهم التي أهملت "هي عدم النشر".. في وصيته طلب الكاتب التشيكي فرانس كافكا أن تُحرق كل أعماله الأدبية غير المنشورة، وأن تمنع طباعة باقي أعماله الأدبية بعد رحيله، لكن صديقه ماكس برود لم ينفذ وصيته وأنقذ بمخالفته رغبة صديقه كافكا، إرثاً أدبياً غيّر خارطة الرواية العالمية، وكان العالم محظوظاً بعدم جرأة كافكا وإقدامه على حرق كتاباته بنفسه.