05 نوفمبر 2025

تسجيل

جدلية الهوية في قلب الانتخابات الفرنسية

28 مارس 2022

أقضي أياما في باريس وأجد نفسي يوميا في دوامة الانتخابات الرئاسية القادمة (9 أبريل الدورة الأولى و25 أبريل الدورة الثانية الحاسمة) أقول دوامة عاصفة بلا مبالغة لأن كل وسائل الإعلام والوزارات ومراكز قياس الرأي العام ومراكز البحوث السياسية معبئة ومجندة لهذه المحطة المصيرية لمستقبل فرنسا، حيث ستحدد سياسات الجمهورية للخمسة أعوام القادمة. ولدينا 12 مرشحا قبل المجلس الدستوري ملفات ترشحهم أبرزهم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وأهم منافسيه اليمينية مارين لوبان واليساري جون لوك ميلنشون، وفي الوسط المعتدل فاليري بيكريس وعمدة باريس أني هيدالغووفي المتطرف العنصري مع الأسف صحفي من أصول أمازيغية جزائرية (كما يقدم نفسه) إيريك زمور، هذه التشكيلات التي تتصارع بالمعنى السياسي لتقديم مشاريع حكم وبرامج حلول للمعضلات الاقتصادية والمعيشية للشعب الفرنسي تريد كل منها أن تجلب الناخبين في الدورة الأولى ولعلها تستهدف الارتقاء الى الدورة الثانية مقابل ماكرون (حسب استطلاعات الرأي) ويسجل المراقبون تزامن هذه الحملات مع الحرب الروسية الأوكرانية وهي في حقيقة الأمر حدث عملاق يزعزع كل الحكومات الأوروبية ويجعل المرشحين يتبارون في عرض مواقفهم من غزو أوكرانيا (من حيث تأثر الاقتصاد الفرنسي جراء العقوبات المفروضة على روسيا أومن حيث الاستعداد لقبول 30 ألف نازح أوكراني قدموا إلى فرنسا للجوء المؤقت، أو كما هومتوقع الاستقرار فيها نهائيا! مشاكل ضخمة متفاقمة على هذه الانتخابات تجعلها استثنائية في توقيتها وحمالة مخاطر من حيث التزام المرشحين بإيجاد حلول لها. وفي هذه الظروف وبسبب ترشح اليمين المتطرف والشعبوي تطرح قضية (هوية الأمة الفرنسية) نفسها بقوة أكثر من ذي قبل وتثار نقاشات وصدامات فكرية حول هوية الأمم وجيناتها. ففي فرنسا مثلا وبمناسبة هذه الانتخابات ونجاح الحزب اليميني العنصري (التجمع الوطني) في أن تحتل مرشحته مارين لوبان المركز الثاني بـ19% من نوايا التصويت بعد ماكرون الذي يحتفظ بـ28% منذ إعلانه الترشح للعهدة الثانية. تسابق المعلقون والمفكرون والسياسيون لتحليل ظاهرة صعود اليمين الذي يدعي الدفاع عن الهوية المسيحية والعرقية للشعب الفرنسي ضد المهاجرين والمسلمين خاصة واحتدم النقاش حول محور (ما هي هوية فرنسا؟ هل الاقتصار على الثقافة المسيحية والعرق الأبيض، أم هي في تعدد الأصول المكونة للمجتمع الفرنسي؟) ومن جهة أخرى في نفس فرنسا وقع حجر حركة يمينية متعصبة اسمها (أنصار الهوية)، لأن المخابرات الفرنسية اكتشفت أن لديها مخططات للهجوم المسلح على المسلمين أما نحن العرب عندما فتحنا عيوننا (جيل ما بعد الاستقلال العربي عن الاستعمار البريطاني والفرنسي)، أدركنا بأن خطر الذوبان في الثقافة الغربية الطاغية يهدد كيان لغتنا وحضارتنا فوعينا بهذا الخطر المحدق منذ فجر الاستقلال وأسسنا في تونس مثلا تيارا تأصيليا ينادي بالتعريب ويرفض التغريب داخل الحزب الدستوري البورقيبي؛ إذ لم يكن متاحا تأسيس أحزاب أخرى، وكان زعيم هذا التيار هورجل الدولة الوطني محمد مزالي رحمة الله عليه، وقد اجتمعنا حوله في مجلة الفكر التي ظلت تصدر لمدة واحد وثلاثين عاما من 1956 إلى 1987 (بداية الاستبداد وتوطين التغريب باسم مقاومة التطرف!) فاغتنمنا شخصية محمد مزالي وهو المولود في مدينة المنستير مسقط رأس بورقيبة، وتاريخه حافل بالإنجازات وخدمة الدولة في عهد بورقيبة بإنشاء التلفزة وتأسيس المركب الرياضي وتأصيل وزارة التربية والتعليم ثم الدفاع الوطني ثم الصحة فبادرنا على مدى خمسة أعوام إلى ما سميناه تعريب التعليم حيث أعلينا من شأن اللغة العربية وأثرينا برامج التعليم في كل المراحل بعباقرة الإسلام في العلوم والطب والفلك والجغرافيا والآداب والفنون والفلسفة والسياسة، بينما لم يتعلم جيلنا نحن سوى جون جاك روسو وفولتير وفيكتور هيغو إمعانا في تغريبنا وتقليص معرفتنا لتاريخنا، وبالتالي نشأ جيلنا وهوجاهل تقريبا بكل ما ومن صنع هويته وأسس حضارته، فقد غادر الاستعمار أرضنا وظل مستعبدا أرواحنا ووجداننا. وعندما اطلعنا على أسباب نهضة اليابان أدركنا أن هذا الشعب رغم الهزيمة في الحرب العالمية الثانية استطاع أن يحول اليأس الى أمل والهزيمة الى نصر، لأنه تشبث بأصوله الحضارية ولم يفرط في تقاليده، بل أخذ من الغرب المنتصر أسباب العلوم والتكنولوجيا فقط وتفوق على الغرب نفسه، بينما نحن العرب فرطنا في لغتنا وأمجادنا وتشبهنا بالغالبين، كما قال علامتنا ابن خلدون، وشاء الله أن يعين محمد مزالي رئيسا للحكومة سنة 1980 فبدأت السيوف الغربية الاستعمارية تشحذ لذبحنا بإعانة أعوان الاستعمار الثقافي والاقتصادي في الداخل، فنالنا ما نال كل صاحب مشروع تحريري من الاضطهاد والملاحقات والمنافي والسجون -غفر الله لمن شردنا وأجهض رسالة التأصيل! وفي الحقيقة حين نقرأ الواقع الراهن في بلادي نعتقد اعتقاد المؤمنين بأن هذه الرسالة لم تجهض، حيث عادت مشكلة الحضارة تطفوعلى سطح الخطاب السياسي بعد أن أشبعها العلامة الجزائري مالك بن نبي درسا وتعميقا في الستينيات. وهذه اللحظة التاريخية من حياة الشعوب وصفها محمد عابد الجابري بأنها فرصة التقاء الماضي بالمستقبل حين نوظف تراكم التجارب القومية لصناعة مصيرنا على ضوئها لا بمعزل عنها ولا ضدها وهو الخيار الأخطر. ليس من الأمانة العلمية أن نعلن انفرادنا نحن العرب باستعادة الوعي بقضية الحضارة والهوية، فالعالم من حولنا شرقا وغربا أصبح طارحا لهذه المعضلات الإنسانية. فالغرب المنتصر عسكريا وسياسيا تقوده الولايات المتحدة الأمريكية طرح قضية الحضارة من زاوية حماية مصالحه الإسترتيجية والاقتصادية وضمان مناطق نفوذه السياسي وتوسيع تأثيره الثقافي أي الحضاري في النهاية، وذلك بالترويج لنظرية تفوق الحضارة الغربية الليبيرالية العلمانية على ما سواها ودعوة الأمم الأخرى للاستسلام الحضاري والتسليم بأن حضارة الغرب هي الأعلى. وفي الحقيقة لم يبدع برنارد لويس ولا صامويل هنتنجتون ولا فرنسيس فوكوياما نظريات جديدة، لكنهم أعادوا صياغة النظريات الاستعمارية والاستشراقية القديمة في شكل معاصر وصبوها في قوالب اللغة الحديثة المعولمة المقبولة.