07 نوفمبر 2025

تسجيل

أطلقوا الإصلاحات لا الرصاص

28 مارس 2011

بعد ثورتي تونس ومصر، والدروس التي ضختاها في عموم العالم العربي، صار محرماً وطنياً، وعربياً، وليس فقط دولياً، أن تتكرر المآسي التي تواكب تظاهرات الاحتجاج، فطالما أن النظامين التونسي والمصري بذلا المستطاع للصمود والبقاء، أو على الأقل للمشاركة والإشراف على الإصلاح والتغيير ونقل السلطة، فلماذا تتمترس الأنظمة الأخرى وراء كراسي السلطة وهي تعلم أن الشارع تخطاها ولم يعد يوليها أي ثقة، بل لماذا تنتظر خروج التظاهرات لتطرح ما لديها من تصورات لتحسين العلاقة بينها وبين الشعب، ولماذا لا تخرج الوعود السخية والقرارات السريعة والتعهدات الجذرية إلا بعد سفك الدماء، فعندما تستسهل السلطة القتل، بعد عقود طويلة من القتل المستسهل أيضا، لا يمكن أن تتوقع من الشعب أن يواصل الصمت والخوف، فهو بات يفاجئها بأنه يستسهل التضحية من أجل كرامته ومستقبله. ثم ما هو هذا النظام الذي يقتل ليحكم، وكيف له أن يعتقد أن لديه ولاية شرعية - بل ربما ربانية – تمنحه الحق في أن يهدد دم مواطنيه، ما كان الشعب ليهب بهذا التصميم والإصرار لو أن الأمر يتعلق بنظام ارتكب أخطاء ويمكن إسقاطه من خلال صناديق الاقتراع، فالحالات المتفجرة التي شهدناها هي لأنظمة تعتقد أنها لو لم توجد لوجب على الشعوب أن تخترعها، بل تبدو متيقنة بأن الصدفة التاريخية وضعتها في سدة السلطة ثم أعلنت نهاية التاريخ، فلا أحد قبل هذه الأنظمة ولا أحد بعدها. هناك من يتحدثون عن الانتفاضات الشعبية كأنها ظاهرة، صرعة، تقليعة، أو عدوى أصابت المجتمعات، وكأن مساً أصابها، أي أنها سارت كالقطعان وراء أول من جن وأحرق نفسه... لا، هذه ليست ظاهرة مفاجئة وعرضية، فالاحتجاجات كانت كامنة، كانت تعبر عن نفسها بما أمكن من الإشارة والترميز، وكانت تلجأ إلى منظمات أجنبية لحقوق الإنسان كي تخرج إلى العلن البعض الأهم من مظالمها ومعاناتها. كثيرة هي الدول التي اصطفت لتسفيه تقارير تلك المنظمات واتهمتها بالكذب والتحامل والضلوع في مؤامرات، ليتبنى الآن أن الحقائق كانت أكثر هؤلاء من الوقائع التي وردت في تلك التقارير، فمن كان يتآمر على من، الشعب والمنظمات الحقوقية على الأنظمة، أم الأنظمة على أبناء شعبها. في خطابه الأخير المتأخر، وضع زين العابدين بن علي أمام الشاشة والمشاهدين سلة تفاؤلات لا يمكن لأي نظام أن يهضمها ولا لأي شعب أن يصدقها، وفي خطاباته المتتالية، لكن المتأخرة دائماً، اتبع حسني مبارك خطاً تنازلياً متقطعاً، وحاول طرح خريطة طريق للتنحي ونقل السلطة، لكن المحتجين استندوا إلى خبرة ثلاثين عاماً ليدركوا أنهم مدعوون إلى متاهة لا يعرف منافذها إلا من يتبرع بأن يكون الدليل فيها، ومنذ شعر الرئيس اليمني أن عواصف الاحتجاج ستهب على نظامه قصر المجلس النيابي ورمي ورقة توريث نجله الحكم وأبدى استعداده للقيام بإصلاحات شاملة لكنه نسي أن تراث ثلاثة عقود ونيف من المماطلة مع الوسط السياسي شكلت حاجزاً أمام تجديد الثقة تسهيلاً للتفاهم على مرحلة انتقالية، وقد أظهرت المداولات طوال أكثر من شهرين أن الرئيس لا يبحث عن حل وإنما عن سيناريو لإكمال ولايته والتحكم باختيار من سيخلفه ليضمن عملياً استمرار نظامه. وفي سوريا قدمت السلطة لائحة مفصلة سواء لمعالجة الوضع المعيشي والاجتماعي أو لمقاربة المسائل الإصلاحية السياسية (وانهار العمل بقانون الطوارئ، توسيع الحريات، قانون الأحزاب، معلف الفساد) لكن الطبيعة الأمنية للنظام واستنفار الحزب الواحد وتراكمات خمسين عاماً من حال الطوارئ حالت دون الأخذ بالوعود. المشكلة في كل هذه الحالات أن استجابات الأنظمة والحكومات ترافقت أو جاءت بعد سفك الدماء، مما جعلها متأخرة وضعيفة وغير كافية، فالانقطاع بين الحاكم والمحكوم لفترات طويلة لم يسعف الحاكم ليلتقط الرسالة الواضحة التي بثتها الشعوب، وهي أن الاحتكام إلى القوة، إلى القمع والبطش، لم يعد مقبولاً، ويمكن لصاحب السلطة أن يقتل كيفما يشاء لكن بقاءها في الحكم لن يعود خياراً متاحاً، قد يكون الأداء المسوس (أي النظام التونسي السابق مفهوماً، إذ واجه تحدياً غير مسبوق، وهو الجالس على كرسيه متفادياً ومستبقاً كل الإزعاجات المتصورة، أما الآخرون فلا يمكن أن يكونوا معذورين، لا في الاستخفاف بانتفاضات شعوبهم ولا في القتل سعياً إلى الردع ولا في المراوغة بخطط نقل السلطة ولا في المكابرة على التحاور مع الشعب ولا في التشبث حتى النهاية بحماية الفاسدين، ومن هنا أن الرسالة لابد أن تكون وصلت، وبوضوح ما بعده وضوح، إلى كل الأنظمة التي أصبحت مدعوة إلى استشراف ما هو أتٍ لا إلى انتظاره، وإلى إطلاق الإصلاحات، لا الاستعداد لإطلاق الرصاص. لم يكن متوقعاً من النظام الليبي أفضل مما يفعله، رغم أنه فاق كل التصورات، فهو حتى اللحظة لم يتخل عن خيار إخضاع الشعب رغم أنه فقد الكثير من القوة التي يعتمد عليها، ولذلك وضع نفسه في مسار خلعه ولو بالاستعانة بتدخل خارجي، إذن فهو نمط مختلف لا يعول على أي عقلانية لديه، أما الأنظمة الأخرى التي تطمح للبقاء فليس لديها سوى خيار التقرب إلى شعوبها، كان لافتاً دائماً أن السلطة، بعد أن تقع واقعة الاحتجاجات، تبرهن أنها تعرف جيداً ما يتوجب عليها أن تفعل، بل تأتي مجردة دقيقة لـ "إصلاحات" صارت فجأة ممكنة في حين أنها بدت مستحيلة قبل شهرين أو ثلاثة، قبل عام أو عشرة أعوام، ولم يكن تجاهلها أو حجبها، بل لم يكن تكرار الثرثرة عنها كأنها من الإنجازات المحققة، سوى نمط متعمد من الخبث السياسي الذي كلف الدول والمجتمعات والأجيال المتتالية الكثير من الخسائر والإحباطات، فقط لأن الحكام رأوا في تلبيتها تمكيناً غير مرغوب فيه للشعوب.