10 نوفمبر 2025

تسجيل

تفكيك السلطة .. مناورة أم ضرورة

27 سبتمبر 2012

الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" ناقش في الأسبوع الماضي مع أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والأمناء العامين لفصائل المنظمة وأعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح فكرة إلغاء اتفاق أوسلو واحتمال تفكيك السلطة وإيقاف التنسيق الأمني مع العدو.. وأقول: سواء كان تفكير السيد " عباس " في ذلك جديا كما يراه البعض أو مجرد مناورة تهدف للضغط على شركائه في عملية التسوية (و / أو) لصرف الاهتمام الداخلي عن الأزمات التي تمر بها حركته وسلطته كما يراها بعض آخر؛ فذلك يعد تحولا وانتقالا كبيرا يجب الوقوف عنده والتأمل في أبعاده إذ رجع الشعب الفلسطيني يناقش القضايا الكبيرة التي انصرف عنها لزمن..  لست أود اليوم الخوض في كل ما يتعلق بهذه العناوين الكبيرة وما عليها من ملاحظات واستدراكات وتحليلات فقد قتلت بحثا وتمحيصا وصار الاختلاف حولها ترفا الذي لا وقت ولا داعي له.. ما يهمني اليوم موضوع تفكيك السلطة خاصة وما يهمني منه بأخص الأخص أمران اثنان أجد من الضرورة تجليتهما وإزالة ما لا يزال يلفهما من الوهم والتشكيك وعدم وضوح الرؤية؛ أولهما: من هي السلطة وما المسار التراكمي والتحصيلي لها في ضوء ما قامت به وما يمكن أن تصل إليه بعيدا عن التهويل أو التهوين أو الإطلاقات العامة أو الاتهام أو التبرئة الجزاف من أجل استشفاف الدور الذي تؤديه ماديا وعمليا وحقيقيا ثم الحكم عما إن كان بقاؤها أو تفكيكها ضروريا.. الأمر الثاني: الرد على دعوى يروج لها من يدافعون عن بقاء السلطة ويكررونها " أن السلطة جسدت الشرعية الفلسطينية وأنها بذلك – أي السلطة – صارت مكسبا إستراتيجيا لا يجوز التفريط فيه أو التراجع عنه".  وأقول: أما بالنسبة لماهية السلطة والمسار الذي تسير فيه منذ وجدت، وإذا أدخلنا التفاصيل الصغيرة والأحداث الجزئية تحت عناوينها الكبيرة وأطرها العامة فتمكن ملاحظة ورصد أن هذه السلطة قد مرت بثلاث مراحل أرادها كلها الاحتلال، وأننا اليوم بصدد المرحلة الثالثة التي تأتي بالضرورة والترتيب المنطقي وبقياس الغائب على الحاضر والمستقبل على الماضي حصادا وتحصيلا للمرحلتين السابقتين.  المرحلة الأولى: هي المرحلة التي امتدت من بداية التسوية حتى اغتيال الراحل "عرفات" وكان من أهم أهدافها نقل الشرعية الفلسطينية من عرفات لتيار بذاته ممن أوجدوا حوله، ومن المنظمة بتفاريعها وتاريخها وأيديولوجيتها إلى حركة فتح الموطأة الأكناف و"المقصقصة" الجناح، ونقل الشرعية داخل فتح نفسها من جيل لجيل ومن رموز لرموز.. وقد اعتمدت هذه المرحلة أساسا على وجود عرفات واستغلال رمزيته وتركيب الشخوص "المقصودين" على كتفيه.. والظن أن الراحل لو فطن لخطورتهم ما قدمهم شبرا وما رفعهم على شعبه بقليل ولا بكثير..  المرحلة الثانية: ردأت بعد استشهاد عرفات مباشرة وكان من أهدافها نقل الشرعية الفلسطينية من داخل فتح إلى خارجها؛ إلى السلطة وإلى آخرين من فصائل صغيرة ومن شخصيات إما كانت مغمورة أو مشبوهة ثم تصفية الحساب بها مع فتح وحماس والمقاومة بمفاهيمها ورموزها وقياداتها ومؤسساتها وإعلامها؛ هنا يحضر الحديث عن أشخاص بأعيانهم ارتكز عليهم مشروع السلطة منذ استشهاد "عرفات" برزوا وصارت لهم أدوار واضحة وخاضوا صدامات مباشرة واستمروا في مواقعهم من دون قاعدة شعبية ولا تاريخ نضالي ورغم كل الرفض الوطني لهم.. في هذه المرحلة يأتي الحديث عن محاولة إدخال بعض هؤلاء لحركة فتح، وعن الانقسام الدموي بين غزة والضفة وعن تقاعدات قسرية لرتب الأمن الوطني وعن مساومة الثوار على أسلحتهم وليتحولوا لفنانين وممثلين على مسارح جنين والضفة وصولا بهم اليوم إلى السجون، وفي إطار هذه المرحلة أيضا تأتي الفضائح الكثيرة والمتلاحقة التي طاولت رموزا تاريخية في فتح كان ممكنا وطبيعيا التستر عليهم.  أما المرحلة الثالثة: التي يفترض أنها الحصاد والتطور الطبيعي للمرحلتين السابقتين والتي نحن بصددها اليوم فهي تكبيل القضية الفلسطينية وتغيير الثقافة وإشغال المواطن بلقمة العيش وصولا لإنهاء أي فرصة لدولة فلسطينية مستقلة.. من ملامح هذه المرحلة الثالثة وربما الأخيرة الجارية اليوم الترويج لثقافة أكبر رغيف خبز وأكبر طبق مسخن ومهرجانات العنب والرسم على الجدران والمباريات الرياضية وزيارات وتصريحات قادة في السلطة حول الحق التاريخي لليهود في فلسطين.. ومن ملامحها أيضا نشاط التهويد والاستيطان وتجاهل القدس.. إلخ.  هذه السلطة بهذا التشخيص لم تعد مجرد تجربة سياسة خاطئة ولكنها أصبحت نقيضا معاكسا وعنادا مشاكسا للشعب الفلسطيني وإنجازاته الثورية والتاريخية وصارت سوأة بين الثورات المعاصرة مهما قال في الدفاع عنها مستفيدون متسمنون أكلوا على عسابها وشربوا وتورمت أرصدتهم وأرصدة ذويهم.  كثير مما يقوله هؤلاء لا يقوم على ساق ولا يستند إلى منطق وما هو إلا صيغ إنشائية ودغدغات عاطفية وخلط للتمنيات بالتحليلات ولكن ثمة حجة يقولونها أرى أن أردها وأفندها لأنها من إلباس الحق بالباطل ومما يطول فيه لسانهم.. يقولون: يكفي أنه صار للشعب الفلسطيني بالسلطة شرعية وتمثيل رسمي في المحافل الدولية.. ويقولون: هذه الشرعية مطلوبة ويلتقي عليها الجميع بكل أفكارهم واتجاهاتهم.. وأقول:  هذا التوصيف غير صحيح لا بالنسبة للشعب الفلسطيني ولا بالنسبة للسلطة ولا بالنسبة للحقائق على الأرض؛ فالشعب الفلسطيني هو أصل الشرعية وهو موجود قبل السلطة وبعدها وبها وبدونها، والشعب الفلسطيني لم يكن يوما فاقدا للشرعية حتى تكون السلطة أو المنظمة أو أي جهة في العالم كله متفضلة عليه بشيء منها؛ وعلى العكس من ذلك مرة أخرى فالصهاينة هم الذين لا يزالون يبحثون عن شرعية وعن هوية وعن نوعية بعد نيف وستين سنة من إقامة كيانهم، ثم إن الشرعية التي تتمتع بها السلطة مؤطرة بالاتفاقيات الخانقة وملوثة بالتنسيقات الأمنية الفاضحة ومجزوءة سياسيا بكونها حكرا على فئة مطاوعة اختارها وأعلاها الاحتلال دون كل الناس.. ومن شاء فهذه انتخابات الـ2006 التي فازت بها حماس واعتقالات النواب والعدوان على غزة كلها تدلل وتؤكد أن شرعية السلطة خاصة ومحدودة لفريق دون غيره ولفكرة دون سواها وأن الشعب الفلسطيني لم يتمتع بشرعية حقيقية للسلطة لحظة واحدة؛  فإن كان وجود السلطة ذات يوم مطلبا فلسطينيا؛ فقد بني على وهم " الربع ساعة الأخير " الذي امتد حتى اليوم إلى عشرين سنة، وعلى وهم " الضوء في نهاية النفق " الذي من الواضح أننا لن نصل إليه أبداً ولكن هذا الوجود أدى أيضا لانقلاب كثير من القيم والمفاهيم حتى قتل الأخ أخاه وتجسس الثائر على الثائر ووصل ببعض الثوار أن يحموا المحتل وأن يعيدوا جنود الصهاينة القتلة إلى أهاليهم في كل مرة سالمين بعد تكريمهم بقدح شاي بالنعناع أو المريمية الفلسطينية والأعجب أن يصير ذلك في نظر البعض قمة الوطنية وغاية غايات المصلحة العليا.  آخر القول: لا بد أن نرى كلا طرفي الصورة ولئن كان للراحل عرفات - رحمه الله – عذر في إيجاد السلطة وأنه لم يخلص الشعب الفلسطيني من مشروعها حتى مات؛ فليس مثل ذلك للسيد " عباس " وحركة فتح بعد كل هذا الافتضاح الذريع الذي يعرفه ويعيشه ويعانيه كل فلسطيني.. صحيح أن الاحتلال لن يسلم لهم بذلك ولكنها المسؤولية الوطنية، فقد صار وجود السلطة عبئا على الشعب والقضية بقدر ما أصبح تفكيكها وتسعير الأرض من تحت الاحتلال بعدها " ضرورة شرعية ومصلحة سياسية وفرصة تاريخية".