12 نوفمبر 2025
تسجيلدون مقدمات طويلة وشروح مستفيضة، فإن ما تكرر وللمرة الثانية في غضون شهور قليلة من صاحب كتاب "لا تحزن"، أخشى أنه أحزن كثيرين فعلاً، بعد أن أصبح عايض القرني، شخصية حازت ونالت اعجاب وثقة ملايين المسلمين. ثقة بناها طوال ثلاثين عاماً أو أكثر، ثم يأتي في غضون أشهر قليلة يبعثرها وربما يفقدها تقريباً، بعد ظهوره في برنامج حواري رمضان الفائت وإعلانه البراءة من الصحوة وعلمائها – رغم أنه كان أبرزهم – وغالبيتهم وراء القضبان، فيما هو حر طليق حتى الساعة، ليأتي قبل أيام ويتجاوز الشأن الداخلي السعودي ويدخل دونما أي داع أو مناسبة تدفعه للخوض في شأن تركي أولاً ويتطاول على الرئيس التركي، ثم شأن إسلامي عام، حين تناول في بيانه الدولة العثمانية بصورة غير منهجية ولا علمية، ناسفاً خمسة قرون من الزمن هي عمر تلك الإمبراطورية. لم تكن هناك مناسبة تدفعه لإلقاء بيان، سواء من تلقاء نفسه أم تم استخدامه لإيصال رسالة ما إلى الدولة التركية وتحديداً رئيسها الحالي، الطيب أردوغان. فإن كانت كلماته حماسة منه وغيرة، فهي في غير موضعها ولا زمنها، وإن سلبياتها أكثر من ايجابياتها. أما إن كان يقرأ بياناً أمنياً – وغالباً هو كذلك باعتبار المحتوى والأسلوب - ومطلوب منه قراءته، فإنه بذلك عزز ما قد قيل فيه سلفاً أنه ارتضى لنفسه أن يكون ورقة بيد السلطان، يلعب بها كيفما شاء، ثم تؤول إلى التهميش أو التمزيق بعد أن تفقد صلاحيتها. هجومه غير الواعي ولا المنطقي على الرئيس التركي، لم يكن صعباً على أي متابع تفسيره، ما دفع بكثيرين في غضون ساعات قليلة إلى استحضار اعجاباته السابقة وكلمات الثناء له في حق أردوغان، لبيان تناقضاته وأنه ما كان ينطق في البيان الأمني من تلقاء نفسه، بل بلسان حال وتفكير غيره، تحقيقاً لحاجات في نفوسهم، على اعتبار أن مثل تلك الكلمات في حق رئيس دولة، يشهد كثيرون في العالم بدوره المؤثر في الداخل والخارج وإن كانت هناك تحفظات ومآخذ عليه، فإنها مبالغة مقصود منها الإساءة والتشويه. ولقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على رصد ما كان من أي شخص يتصدر المشاهد العامة، وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. وهذا ما حدث للقرني يوم أن كان عالماً يعمل لدينه ويبتغي رضا خالقه، ويوم أن تحول ليشتغل بدينه لدنيا غيره، على اختلاف مآربهم ومشاربهم. لا شيء في أن تنتقد الآخر، فكلنا بشر نخطئ ونصيب، ولا معصوم إلا رسول أو نبي. لكن أن يكيل القرني كل تلك الاتهامات للرئيس التركي في بيانه الأمني دون مناسبة تستدعي كما أسلفنا، ويعدد معايب ومساوئ رآها في الرجل دون التطرق لزعماء ورؤساء آخرين عرب وأجانب أسوأ بكثير من أردوغان، سواء بعض القريب منه أو البعيد، ولو حتى من باب ابعاد شبهة تعمّد الإساءة، فإنما هو دليل واضح على أن المقصد من الانتقاد هو الإساءة لأردوغان وتشويه صورته لأغراض سياسية بحتة. الأكثر دهشة في البيان، بل ربما السقطة الكبيرة له، أنه استحضر التاريخ وهاجم الإمبراطورية العثمانية، وكأنه لم يقرأ عنها طوال حياته، وهو من كان يعدد مزاياها وفضلها في نشر الإسلام والدفاع عن بلاد المسلمين في مناسبات عديدة لا تحصى. تلك الإمبراطورية التي كانت رغم ضعفها وفي أيامها الأخيرة، سداً منيعاً أمام الغرب ولقرون طويلة، منعته من استعمار الأقطار العربية، حتى إذا ما سقطت الخلافة وانهزمت في الحرب العالمية الأولى، انطلق المستعمر الغربي في كل أنحاء العالم العربي، ينهش وينهب ويستبد ويهلك الحرث والنسل. وكل تلكم الحقائق تجاهلها القرني ومسحها من ذاكرته!. ظاهرة القرني لا أريد الخوض في كثير مما جاء في البيان الأمني، ولا يهم كذلك في هذا المقام إطالة الحديث عن شخص القرني، فقد تكفل هو نفسه بنفسه في كشف أمره، ما أغنانا وكثيرين عن القيام به. لكن ما يهمني حقيقة هو ظاهرة القرني – إن صح التعبير – تلك الظاهرة القديمة المتجددة، أو ما عُرف تاريخياً بعلماء السلاطين أو المتحولين أو سمّهم ما شئت، فلا مشاحة في الاصطلاح. خطورة الظاهرة تكمن في قدرة القرني الفائقة مثلاً ومن على شاكلته، على تكوين قواعد شعبية أو ملايين الأتباع أو المتأثرين بهم في فترة وجيزة، ومن ثم فإن حدوث أي انتكاسة لهم من شأنها زعزعة الثقة في عموم العلماء، ولعل هذا هو الحاصل اليوم عند كثيرين، على اعتبار أن غالبية أتباع علماء السلاطين وقواعدهم الشعبية العريضة، هم من الطبقات المتوسطة والفقيرة علماً وفكراً ومادة أحياناً كثيرة، وبالتالي سهولة وقوعهم فريسة لآخرين متنفذين وبارعين في تسويق الفكر غير السوي والرشيد، واستثمار تلك القواعد العريضة والمهزوزة ثقتهم في علماء الدين، لتكوين قواعد شعبية منهم لفكر مضاد للدين والقيم والأخلاق، يساعد على خلخلة قواعد وبنيان المجتمع، لتحقيق حاجات في نفوسهم، هي دون شك غير بريئة ولا سوية. الاستسلام السريع للسلاطين لا ريب في أن ما حدث للقرني قد يحدث لأي شخص يعيش في عالم الأضواء والشهرة والامتيازات، لاسيما إن كان ضمن دائرة العلماء، وهم الفئة الأبرز والأكثر تقديراً واحتراماً وتبجيلاً عند العامة في غالب المجتمعات والثقافات في العالم. وما يحدث للقرني الآن وغيره من علماء كانت لهم عند الناس مكانة مرموقة، لا يمكن تفسيره سوى الاستسلام السريع للسلاطين والانبطاح لهم دون إبداء شيء من المقاومة، سواء رغبة أم رهبة مما في أيديهم من إمكانات. وقد يحدث الأغرب من هذا أن يتحول أولئك إلى ملكيين أكثر من الملك، ويصير التنافس على إرضاء السلطان غاية وهدفا، فيكون التنصل من الماضي سهلاً وسريعاً إلى درجة أن بعضهم قد يصل به الحال إلى إنكار ما كان أو ما قد صدر عنهم من أفعال أو أقوال، وكأن شيئاً لم يكن، في مشهد درامي يُرثى لهم. إن التقرب من السلطان - كخلاصة لهذا الموضوع - أمر محفوف بالمخاطر، لأن هذا القرب غالباً لا يأتي بنتائج محمودة. وشواهد التاريخ أكثر من أن نحصيها ها هنا. ومن يقول بقدرة العالِم على التوازن والتوسط بين أي سلطان وشعبه، إنما هو قول مشكوك فيه، ذلك أن العالِم حين يكون في منطقة وسط بين صاحب الأمر والناس، لا شك أنه بمضي الوقت، ولقوة جواذب ما عند صاحب الأمر، تجده قد مال تلقائياً إليه وابتعد عن الناس حتى يدخل نطاق السلطان، الذي إن دخله، فلا خروج عنه بسلام أو أمن وأمان. فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك! آمين!. [email protected]