06 نوفمبر 2025
تسجيلأربعة وأربعون عاما وموسم الهجرة إلى الشمال لم ينقطع وربما قبل هذه الرواية الجميلة للسوداني الطيب صالح, فالمسير إلى هناك ظل متتابعا يزداد وينقص تبعا لحالة الجنوب وأجوائه برده وحره, أمنه وخوفه, شحه وغناه, أما لماذا أصر الطيب صالح على هذا العنوان لروايته التي صدرت قبل أربعة عقود ونيف فتلك حالة تضع الجنوب على المحك دائما بل وحتى الانفصال المبرمج منذ اتفاقية نيفاشا الكينية للسلام عام 2005م, ورغم أن طلائع السودانيين العائدين إلى الجنوب بسحنة الجوع والمرض لمجرد تكثيف التصويت ضد أو مع هذا الانفصال القادم هم الآخرون شدهم ذلك الشمال فشدوا الرحال إليه فغدا اليوم لا يجزي ولا يسمن العيش فيه أو الارتباط به, وليس إذا سوى الانفصال وتقرير المصير رغب الشمال أم أبى فاللعبة ماضية وصنوف التباكي الشمالي والعربي عموما جاهزة للتحدي الخاسر المنتظر وتلك هزيمة قادمة للأمة وأيديولوجيات قوميتها وشعاراتها التي استعصى عليها أبناء الجنوب بقبائله وإثنياته وميوله الشمالية الغربية البعيدة خارج حدود الخرطوم ومؤسساتها ومنذ عقود زمنية تحدث الجميع فيها لغة السلاح ومارسوا لعبته المخيفة, جون قرنق الزعيم الجنوبي الأسمر من مرقده سيكون حاضرا ليس في يوم الاستفتاء القادم لتقرير مصير الجنوب السوداني فحسب بل ستؤثر رؤيته وأدوات لعبته الانفصالية التاريخية في عقليات كل الأقليات في الوطن العربي وربما غيره مهما صيغ التاريخ بمداد القومية ومسلمات الحدود المعروفة وتفاصيل دولها , فالباعث والمحرك لقرنق وحركته كان البحث والتمحيص في فسيفساء الدولة وهل رصت المكونات كما ينبغي لتبرز جمال المكون الظاهر بروح المعنى وفقه الانتماء آم آن في لعبة الرص تلك خفايا من الجهل السياسي العتيق, تلك هي ورقة قرنق المتينة والمتتالية فحركته التحريرية تبحث عن دور غابت عنه شخوص الجنوب وهمشت بيادقهم عن لعبة الملوك فغابت الديمقراطية عن هناك مبكرا فحرك الجنوب سلاحه وآلياته للمواجهة فوق الكثير من الجثث وتحت غطاء الإعلام المتقن لتدور مفاوضات نيفاشا لاحقا للوصول إلى السلام كمحطة أولى ثم تقرير المصير الذي نعيشه واقعا اليوم بعد آن كان حلما لطرف ووعدا من الطرف الأخر يمكن الانتصار عليه ورتق شروخ ماضيه بمقتضيات الزمن منذ العام 2005م , مات قرنق تحت ركام مروحيته المتحطمة وبقي الوعد للجنوب قائما تحرك الظروف نحوه بقوة وأجندات مفصلة تكثف الهدف نحو الانفصال وظل البشير رئيسا رغم كل الهزات والملاحقات الدولية المدعمة بقضايا دارفور ربما ليوقع هو الأخر بقلمه القرار الأخير بشأن الجنوب ولتفرح الحركة الشعبية ببترول الجنوب الواعد وبدولة جديدة على خارطة القارة السمراء وليبقى للعرب فقط التاريخ وشرف الحكم السابق هناك تماما كما في الأندلس وبعض تخوم العالم, فقد كنا هناك وتلك منارات مساجدنا وصواري أعلامنا وبقايا مدارسنا أما الفكر فلم نستحوذ منه سوى على ما يعمق سوءاتنا الكبرى في استدراك علل الماضي ومعضلة الفهم لمعنى الحكم ومراس التوافق والاندماج مع الآخر, وهنا تسقط تجاربنا الديمقراطية وتسقط بعض أجزائنا تحت عذر استبداد الأقلية وغياب حسن تدبير الأمور معها وتقسيم درجات المواطنة بين أولى وثانية, مرة أخرى أعرج نحو القومية وأدعو إلى استعراض مضمونها الفكري وتحليل تجربة السودان وفق فهم معنى الدولة أو المجتمع وقوميته جنبا إلى جنب مع معنى الدولة وفق النموذج العالمي الحديث بل حتى المعنى الإسلامي للدولة وسلطات المجتمع كما فسره ابن خلدون في مقدمته عند الحديث عن فرض القوة على عموم المجتمع دون اعتبار للقيم الاجتماعية السائدة مما يفضي إلى النزاع والاضطرابات داخل الكيان والعاصم من ذلك كله حسب رأي ابن خلدون هو تأسيس الدولة في ضوء منظومة القيم السائدة التي تواضع عليها المجتمع كافة, أعتقد هنا أن حالة تضخيم الذات والطيران دون أجنحة أو توازنات فوق بالون القومية والأحادية يعجل بالسقوط دائما أو حتى الانفصال كما في الحالة السودانية المشاهدة وما من علاج سوى تعميم فكر الجماعة وديمقراطيتها وحرياتها المكفولة وتسخير الموارد لإطعام الجياع وتطبيب المرضى وتعليم الناس بدلا من حربهم حتى لا نسمع قريبا عن أجزاء عربية أخرى تقرر الانفصال وتجد من المبررات ما يكفي, أعود إلى الطيب صالح وبطل روايته مصطفى سعيد اللذين رسما بأحداث الرواية جسوم خطر العودة إلى الجنوب بفكر صلد لم يلن إمام القيم المتجددة لتكون النهاية المؤلمة. [email protected]