11 نوفمبر 2025

تسجيل

الذهنية العربية من الوصية إلى الوصاية

26 يونيو 2019

النصيحة والوصية مفردتان تعج بهما الأدبيات العربية بشكل طاغ، وثقافتنا هي ثقافة النصيحة والوصية بامتياز. من منا لا يذكر قصة الشيخ الذي جمع أبناءه ليوصيهم قبل مماته؟ قرأناها جيلا بعد آخر، من منا لا يذكر حديث النصيحة المشهور؟ من منا لا يعرف نصيحة لقمان الحكيم لابنه التي أتى عليها القرآن الكريم؟ هاتان هما مفردتا الاصلاح وبوصلة الاعتدال بشرط إدخالهما العصر. لا أبالغ بالقول إن فهمهما أساس تقدم الغرب وعدم فهمهما سبب تخلفنا، أدخلهما الغرب في ثقافته كأنساق بينما تعاملنا نحن معهما كمفردتين وسط نسق قد يقبلهما وقد لا يقبلهما، أي إنهما عمل خيري قد يراه البعض ممكنا وقد لا يراه الآخر كذلك ومع الزمن تضخمتا في الذهنية، فأصبح بالتالي لكل فصيل أو فريق نصيحته ووصيته التي يراها روشتة الإصلاح وأمل النجاة. إن عدم احتواء النسق السياسي للنصيحة والوصية هيكليا داخله يحولهما إلى بؤر التهاب مستمرة ومتطرفة في التأويلات للنصوص بما يخدم الحرفية ولا يتخذ من الواقع والظروف معيارا لهذه التأويلات. الأنظمة البرلمانية على أشكالها المختلفة في العالم ما هي إلا ترجمة واضحة وواقعية لمفردتي النصيحة والوصية اللتين أتى بهما القرآن ولكن بعد إدماجهما وتفعيلهما لتصبحا آليتين يقوم عليهما الإجماع والقرار. عدم احتوائهما كذلك حول النصيحة إلى تهمة والوصية إلى وصاية، وصاية جزء على المجتمع أو وصاية فكر على الآخرين، ما تعج به مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صراعات داخلية أيا كان شكلها دينية أو سياسية هي ترجمة حقيقية لتغلغل فكر الوصية والنصيحة في الذهنية العربية بشكل قح وبدون تفعيل ليتحول بعد ذلك إلى وصاية ورؤية واحدية. الإشكالية الكبرى في ذلك تتمثل في أنه بغير ذلك الاندماج النسقي يجعل من مفردات أخرى كالإصلاح والأمر بالمعروف وغيرهما تنطلق كذلك من ذهنية الوصاية التي هي أصلا وصية متضخمة فينسى صاحب الرؤية الدينية أن رؤيته أولا بحاجة إلى إصلاح قبل مطالبته الغير بالأخذ بها وينسى الأيديولوجي أن أيديولوجيته مطالبه بالحد من غلوائها قبل المطالبة باعتمادها وصحتها. هكذا تتكون فرق الوصاية في المجتمع على أشكالها واختلافاتها وهكذا يتم اللجوء إلى النصوص التي لم تترجم واقعا مجازيا بعد وليس حرفيا، فالوصية والنصحية هما مفردتان حرفيتان ولكن ترجمتهما تحتمل التأويل والتحويل والتطوير بل لابد من ذلك وهو ما قام به الغير. إنه أرشيفنا التاريخي الذي نحمله بدلاً من أن نفككه ونطوره لنعيش به، أصبحنا نعيش فيه وفِي زوايا انسدادته وتعرجاته. [email protected]