13 نوفمبر 2025
تسجيلاقتحام العسكر للمشهد السياسي ليس أمرا جديدا فقد تدخل الجيش المصري في الحياة السياسية أكثر من مرة، وأبرز المحطات التي شهدت ذلك كانت خلال الثورة العرابية 1881-1882، ثم خلال حركة الجيش عام 1952 وأخيرا خلال الانقلاب الذي نفذته القيادة العسكرية على الرئيس المنتخب في الـ 3 من يوليو 2013. ورغم أن تدخل العسكر في السياسة غير مرغوب فيه بشكل عام إلا أن ثمة اختلافات كبرى بين أهداف وأساليب وغايات كل من هذه التدخلات، وكذا في تعاطي الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي مع كل منها، ونعرض فيما يلي لأهم مظاهر الاختلاف بين التحركين الأول والأخير، أي بين حركة عرابي وحركة السيسي. 1- انطلقت حركة عرابي أساسا من مطالب "فئوية" تخص ضباط الجيش المصري (اختلاف نظم الترقيات ومنح الألقاب بين الضباط المصريين والضباط الشراكسة)، حيث شعر الضباط المصريون أن الأجانب يأخذون أماكنهم، ويفضلون عليهم، فتحركوا لتحسين أوضاع العسكرية المصرية، والقضاء على ما كان يشوبها من تمييز لصالح العناصر غير المصرية، ولكنهم توسعوا بعد ذلك إلى تبني مطالب سياسية تخص الأمة المصرية بأسرها، من قبيل الدعوة إلى تشكيل برلمان ووزارة وطنية وجيش قوي. أما حركة السيسي فإنها انطلقت مما بدا أنها مطالب وطنية عامة، ولكنها تراجعت إلى تأكيد سيطرة القوات المسلحة على مفاصل البلاد وتعطيل الدستور والقانون. فبعد فرض حالة الطوارئ أصبحت يد قوات الأمن العسكري والشرطي مطلقة في التعامل مع المواطنين، ومقيدة للحريات، في غياب تام لمفهوم الدولة المدنية. 2- من ناحية أخرى قامت حركة عرابي ضد نظام حكم مطلق، مثله الخديوي توفيق الذي ورث السلطة عن أجداده، وتحكم في البلاد والعباد، وفقا لإرادته المطلقة، فلم يكن هناك من يحاسبه أو يراجعه، كما لم يكن ثمة فارق بين خزانة الدولة وبين جيبه الخاص. في الوقت الذي تحرك فيه الجيش في الحالة الثانية ضد رئيس شرعي منتخب، لم يصدر عنه ما يوحي بأنه ينوي الإطاحة بالديمقراطية التي جاء من خلالها إلى الحكم، كما لم تثبت ضده قضية فساد واحدة، بل ولم يثبت حتى أنه قد صرف راتبه القانوني طوال مدة وجوده في الحكم. 3- كان على رأس أهداف حركة عرابي أن يتشكل مجلس نواب منتخب من الجماهير، وأن تصبح الحكومة مسؤولة أمامه عن كل ما يخص شؤون الحكم، حتى يصبح هيئة لها نفوذها الفعلي في حكم البلاد، وأن يصبح له الحق في بحث المسائل المالية دون الأجانب، وأن يقرر أمر الدين والضرائب وفق ما تمليه مصالح البلاد. وهو ما تم بالفعل عندما تم إقرار اللائحة الشهيرة التي تعتبر بمثابة أول دستور مصري في 8 فبراير 1882. أما حركة 3 يونيو 2013 فإنها فضلا عما قامت به من حل المؤسسات المنتخبة، حيدت الجماهير بدرجة كبيرة، فلم تأخذ رأي الناس لا في تشكيل الحكومة المعينة ولا في تعيين لجنة الخمسين المكلفة بتعديل الدستور، ولا في أي من الإجراءات اللاحقة. بل إن خارطة الطريق التي تم على أساسها الانقلاب لم تطرح للاستفتاء الشعبي ولم يهتم قادة الحركة حتى بمعرفة حجم التأييد الفعلي الذي يحظون به مكتفين بشرعية امتلاكهم القوة القاهرة أو "الشرعية المسلحة" كما جاء على لسان أحد عناصرهم مؤخراً. 4- كان أحد أهم محركات الثورة العرابية إعادة الكرامة والاعتبار إلى الجندي المصري ومنع استخدامه في الأعمال التي لا تمت للجندية بصلة كحفر الترع ومد السكك الحديدية وزراعة أرض الخديوي، في الوقت الذي ارتبطت فيه حركة 3 يونيو بوضع العسكريين المصريين في غير ما أعدوا له من دفاع عن الوطن وضمان أمن حدوده، حيث أصبح من المعتاد عكوفهم على حراسة الأكمنة والإشراف على حظر التجول ومراقبة الطلبة في المدارس والجامعات. مع ما يتضمنه ذلك من احتمالات لوقوع مواجهات دامية بينهم وبين المدنيين، وهو الأمر الذي لم يعرف له التاريخ المصري الحديث مثيلاً. 5- أمريكا والغرب لم يكونوا بعيدين عن حركة الجيش في 1881، ويكفي أن نذكر أن أحد أسباب قيام الثورة الأولى، كان هو التدخل الغربي في أمور الجيش المصري، ويذكر المؤرخون أن العديد من الضباط الأمريكيين كانوا ضمن صفوف الجيش المصري في تلك الفترة حتى أن عرابي عزا هزيمة المصريين في معركة الحبشة الشهيرة إلى خيانة أحد الضباط الأمريكيين واتصاله بالقساوسة الأحباش وإطلاعهم على كافة تحركات الجيش المصري. أما في حركة 3 يونيو فنجد علاقة حميمة بين قيادتها وبين الأمريكيين. ولا يجد قادتها أي غضاضة في التصريح بأن ما قاموا به كان بالتنسيق مع القوى الخارجية، وأنه كان يتم إطلاعهم على تفاصيل الانقلاب قبل تنفيذها أولا بأول. 6- في الثورة العرابية التقى الوطنيون والعسكر على هدف موحد تمثل في تخليص البلاد من سيطرة الخارج الاقتصادية، والتي ترجمت حينها لأكثر من مظهر كان أشدها إيلاما للكرامة الوطنية هو إنشاء "صندوق الدين العام"، الذي كان يضم مراقبين أجانب من الإنجليز والفرنسيين. تحرك الجيش ضد نظام الحكم الذي ورط البلاد في هذه التبعية المالية، والذي أراد أن يجعل مصر قطعة من أوروبا فأغرقها في الديون. أما حركة الجيش الأخيرة فقد تمت ضد الرئيس الذي نجح في تحقيق فائض في الموازنة لأول مرة منذ نصف قرن، وامتلك طموحا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي للبلاد ينتج بموجبه المصريون غذاءهم ودواءهم وسلاحهم. 7- أما بالنسبة لكيفية تعاطي الإعلام مع كل من الحركتين، فيظهر البحث في الوثائق والصحف القديمة أن الإعلام عارض الثورة الأولى وتحيز ضدها منذ قيامها بل ورفض تسميتها ثورة واعتبرها فتنة، ووصف عرابي نفسه بالعاصي والذليل والحقير، وشبه زميله محمود سامي البارودي باشا بالسامري الذي خان موسى (عليه السلام)، وتبارت الصحف وقتها في الحديث عن بطولة الانجليز الذين هزموا جيش العصاة، واشتطت كبرى الصحف المصرية (الأهرام) فذهبت إلى أن العسكر المصرية لا يصلحون للجندية أصلاً. وعلى العكس احتفى الإعلام بأحداث 3 يوليو، حيث اعتبرها ثورة مكتملة الأركان، حتى أنه خلع على من قام بها صفة البطولة ورفعه لرتبة فوق مستوى البشر العاديين. المثير في الأمر أنه بعد أن دار الزمان دورته، انتصف لعرابي وثورته التي وقفت في وجه البغي والظلم، ووضع خديوي مصر في الموضع الذي يستحقه هو وأعوانه، وفضح حلفاء الاستعمار ممن طبلوا له وزمروا. الكثيرون يترقبون المشاهد القادمة لمعرفة مصير التحرك الأخير للعسكر، آملين ألا يطول انتظارهم حتى يروا ما سيؤول إليه أمره وأمر من قاموا به وأيدوه.