13 نوفمبر 2025
تسجيللا شك أن الحالة السياسية والوطنية التي تمر بها بلادنا العربية هذه الأيام في ظل الثورات المتنقلة عبر الحدود هي حالة باهرة وطنيا ونقية ثوريا ومشربة بالنهوض الحضاري والهوية الأصيلة لشعوبنا ولطريقتنا في احترام أنفسنا.. ولكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن أو بما يريد السفان، وليست كل النظم كالنظام التونسي والمصري اللذين تخليا أو أخليا في أيام.. ولذلك أسبابه التي تتعلق بطبيعة الشعبين وما لديهما من تراكيب إدارية وحزبية وسياسية وثقافية وحضارية.. النظام الليبي وبطريقته الدموية وتركيبته الخارج وطنية ( الاعتماد على المرتزقة والدعوم الخارجية ) استطاع أن يبطئ مسار هذه الثورات وأن يضطرها للاستغاثة بالخارج الذي لم يكن في ظل التخلف العربي إلا مجلس الأمن وإلا الغرب كفاعل أساسي في هذا المجلس ( سوى ما قامت به قطر أدام الله عزها ) ذلك ألقى على الثورة الليبية وعلى الخطوة القطرية شيئا من شبهة الاستعانة بالأجنبي وبالأخص لدى بعض الذين لا نتهم غاياتهم ولا نياتهم بقدر ما نشفق على عاطفية نظرتهم وقصور قدرتهم على فرز الأشباه والنظائر والمتفقات والمختلفات من المواقف والحالات.. الذي زاد الأمر سوءا والارتباك المفاهيمي اتساعا وخطورة هو ما أعطاه نظام القذافي لنفسه من صورة الثائر والإسلامي وابن الصحراء، واستحضاره لمصطلحات ( الحرب الصليبية، وأرض الإسلام، وأوروبا الكافرة.. ) التي يغص بها إعلامه ليل نهار والتي لها قداسة وتأثير خاصين لدى الرأي العام عندنا.. القذافي يحاول أيضا تقمص صورة ووطنية ومظلومية صدام حسين وما انطبع في الذهن الجمعي عنه كضحية للصهيوأمريكية والمطامع الغربية التي لا حدود لشططها.. الثورة الليبية اليوم وبعد أن كانت مؤيدة شبه مطلقا وحتى لدى طائفة من البعد الرسمي العربي، وبعد أن كانت مقارباتها جلية مع الثورتين التونسية والمصرية، بتنا نراها بحاجة لمن يدافع عنها ويبرر تقبلها للتدخل الغربي وأيضا بتنا نرى من يهاجمها وربما يتهمها في أغلى وأعز ما بنيت عليه من الشرف الثوري.. بعض الكتاب والمفكرين ممن لهم صوت مسموع وجاه مرفوع في نقد النظم وفضح انحرافاتها وقسوتها.. رأيناهم – بعد التدخل الأجنبي - ينقلبون إلى التعاطف مع العقيد ( المجرم ) الذي لم يطمع يوما أو ساعة أن يذكروه بكلمة مجاملة! فكيف وقد ذبح الآلاف من شعبه وهتك حرمات الوطن بطوابير المرتزقة والمجرمين.. هؤلاء نسوا أو تناسوا طبيعة الظروف التي جعلت الثورة الليبية تتقبل التدخل الغربي ضده.. بعضهم يحاول الالتفاف على ضميره الوطني وأن يسوغ لنفسه تقبل القذافي وإعادة ( منتجته ) من جديد فيقول مثلا : القذافي نرفضه في مقابل الشعب الليبي أما إذا صار في مقابل الغرب فإننا نتقبله.. قال أيضا : إن القذافي لن يكون بعد اليوم كما كان قبله وقبل أن يطعنه الغرب في ظهره ( يقصد أنه سيصير أكثر وطنية واحتراما لشعبه ) في مقابل هؤلاء وجدنا بعضا آخر من الكتاب والمفكرين يحملهم بغضه القذافي أن يقول قائلهم : حتى لو تحول التدخل الغربي إلى احتلال على غرار ما حدث في العراق وأفغانستان فهو أقل كلفة وضررا من مجرد وجود القذافي وبأي حال هؤلاء ليسوا خونة ولا منظرين للتدخل الغربي بل على العكس لم يقصروا لحظة في نعته بأقذع الألفاظ.. ثم صاروا اليوم يدافعون عن تدخله ناسين حقيقة الغرب وسوء نياته ( التي تكشفت على مدى قرنين من الزمان وعبر كل مآسينا فيهما ) لقد تحولوا من حيث لا يدرون إلى مدافعين عن هذا الغرب وتدخلاته وبدون ضوابط أو محاذير.. ومن يدري فربما يجرون مراجعة للكثير من مواقفهم وفهومهم وماضيهم فالارتباك حقيقي واحتمالات أن تتسع دائرته ممكنة.. وأقول كلمتين: الأولى: لا ينسين أحد أن الغرب بات متيقنا من أن الأمة ستتحرر وأن هذه النظم المتخلفة قد فقدت آخر معاني الاستقلال الوطني والاحترام الشعبي.. لذلك فهو – أي الغرب – بات معنيا أن يشارك في هذا التحرر ولو بشكل ما وفي مستوى ما، وأن يسير باتجاه الشعوب فيما لا مناص منه.. على طريقة ( اللي بزرع في الشتاء بحصد في الصيف ).. الغرب بحاجة أن يثبت مصداقية أخلاقية أمام هذه الثورات وبالأخص فيما هو يعلم أنه – كما قلنا - صائر به وبدونه.. لكن ومع كل ذلك فلا يجوز إعطاء الغرب (أوكي) كبيرة على التدخل ويجب أن تبقى أعين الثورة الليبية وأعيننا على احتمالات أن يتحول إلى احتلال عسكري على الأرض، فالغرب ليس جمعية خيرية، ولنا مع أطماعه واعتداءاته صولات وجولات وذكريات دماء، ثم إن قرار مجلس الأمن في شق منه ترك للوقائع على الأرض أن تحدد حجم التدخل.. في هذا الإطار وبهذا التحديد وتحت هذا العنوان يمكن قبول التدخل الغربي خاصة أنه يأتي تحت غطاء مجلس الأمن والقانون الدولي وليس انفرادا من دولة كأمريكا بدولة صغيرة كالعراق. والثانية: لا وجه للمشابهة بين القذافي وصدام حسين.. والفروق كثيرة وجوهرية ؛ أهمها : فارق أن صدام ( مع الاستسماح ممن يراه أقل مما أراه ومع التحفظ على تبرئته من ماض بئيس موغل في القسوة ) كان في أواخر عهده ضد الغرب وكان قد سبق أن قصف ( إسرائيل ) بالصواريخ التي كانت إبداعا ونشوزا على الحالة العربية المتهرئة في جملتها.. نعم ربما فعلها ليخلط الأوراق، ولكنه فعلها.. فأين القذافي من ذلك؟ هل رأينا صواريخه ودباباته وطائراته إلا لحماية ذاته وأولاده وجبروته وفساده؟ وهل استعملها إلا لقهر شعبه البسيط المتعب المعذب؟ كذلك لا وجه للمشابهة بين الثورة الليبية والمعارضة العراقية لا من حيث الدوافع ولا الوقائع ( وليس المقام للتفصيل ). آخر القول: لقد وضع القذافي بدمويته ورهانه على المرتزقة ومعادلات الخارج.. وضع شعبه أمام ضرورتين ؛ إما الخنوع لنظامه المستبد والرضا بطغيانه اللامحدود؛ وإما الاستعانة عليه بالعالم غربيه وشرقيه وعربه وعجمه وبربره.. وبقليل من التبصر وكثير من الحذر وبتحكيم قانون خير الخيرين وشر الشرين فإنه يمكن الخلوص إلى أن على شعوبنا أن تستمر في التقدم نحو حريتها وأن لا تتراجع أمام معادلة الدم في وجه الصاروخ والطائرة والدبابة وألا تفتر تحت وقع الدعايات والتشبيهات.. فلئن أفلت القذافي هذه المرة ليفلتن كل مرة وليفلتن غيره ممن ينتظر..