05 نوفمبر 2025
تسجيلحينما نكون اليوم شهود عيان على صحوة الضمائر العربية وعودة الأمة للتاريخ بعد أن أطردت منه وحينما يستيقظ المارد الشعبي بغير قيادات للمطالبة بالحريات والكرامة وحينما يعود للعقل العربي وعيه الغائب فإنما نتفاءل ونتوقع نهضة الأمة بفضل انتصار التأصيل على الاستئصال، بعد أن عشنا أعمارنا كلها ننتظر بزوغ هذه الشمس الساطعة الغراء وانبلاج هذا الفجر المقدس. ورغم تفجيرات العنف التي تعصف بأرواح عدد من شباب العرب الأبرياء، هذا الشباب الذي يفضل ركوب زوارق الموت الصغيرة التي تحمل زهرات شبابنا المغاربي عبر البحر الأبيض المتوسط ليلتحقوا بسواحل أوروبا حاملين شهادات لم تنفعهم في أوطانهم، ورغم أننا كنا نقرأ إحصاءات الأمية المتفشية في البلدان العربية في تقرير منظمة الألكسو العربية، أو نسمع زعماء العالم الأقوياء يتوعدوننا بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم نصلح تعليمنا ونغير خرائطنا ونحرر مجتمعاتنا، فإن أول ما كنا نفكر فيه هو أن العقل العربي مني بهزيمة نكراء أو للتفاؤل لنقل نكسة كما فعلنا مع الخامس من يونيو 1967. كل من يقرأ تاريخ العقل العربي منذ انتشار الرسالة الإسلامية إلى اليوم، يقف حائرا حسيرا أمام النكبة التي أصابته والانحدار الذي اعتراه. هذا العقل الذي قدم للإنسانية علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والجبر والطبيعة وأسس لها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وأبدع الأدب والفنون وعرف كيف ينقل عن الثقافات المختلفة ويضيف إليها دون عقدة أو انغلاق. كيف تقهقر إلى الوراء وتجمدت أطرافه وتصلبت شرايينه ولحقه عفاء الزمن؟ إنها ظاهرة خطيرة أن يتقلص العقل العربي إلى دور التقليد بعد مجد الإبداع وأن يقتصر على التبرير عوض التفكير وأن تجف منابع الاجتهاد ليتحول العرب إلى ببغاوات التقليد والتكرير وإعادة إنتاج ثقافات الأمم الأخرى في عالم لا مكان فيه إلا للمبدعين ولا سيادة فيه إلا للمبتكرين. أين انتفاضة أبي ذر الغفاري وثورة ابن المقفع وحيرة أبي العلاء المعري واجتهاد ابن رشد وإبحار الجاحظ في العلوم الطبيعية وقانون الطب الذي وضعه للإنسانية الرئيس ابن سينا وترجمات بيت الحكمة والمدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي والتحليل العميق للمجتمعات الإنسانية الذي قام به العلامة ابن خلدون؟ بل أين نحن من اكتشافات ابن النفيس وطبائع الاستبداد للكواكبي وأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك للوزير خير الدين التونسي وتخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي وقواعد الوحدة الإسلامية لجمال الدين الأفغاني؟ لا شك في أن العقل العربي تخلف وارتد عن هؤلاء العمالقة الرواد، ولا مجال البتة لمقارنة مجد العقل العربي الزاهر بحالته الراهنة الكاسدة التي طالت إلى يوم 17 ديسمبر 2010 حين استشهد شاب تونسي مجهول بائع خضراوات في سوق مدينة سيدي بوزيد، فالمقارنة كادت أن تؤدي بنا إلى الإحباط واليأس والقنوط. وطالما كنا نتطارح ونتناقش حول الأسباب المختلفة التي أطاحـت بقـلاع العقل العربي ودمرت حصونه وطالما تواصينا بأفضـل الحـلول وأنجـع العلاجـات للخروج من عصر الظلمات الذي أناخ بكلكله على العالــم العربــي منـذ أن استقلت شعوبنا وأقامت دولا وأعلنت جمهوريات وحتى جماهيريات ورفعت عقيرتها بالشعارات وتخيلت الثورات وتعاقبت فيها الانقلابات وتمت القطيعة الكاملة بين أصحاب الأمر وأصحاب الفكر. حينها وبالتدريج تم تدجين العقل المفكر وتحرير العاطفة الهوجاء. تم إلغاء الاجتهاد وتنصيب الاستبداد وخاصة بحجج لا صوت يعلو على صوت المعركة... كما كان في العهد الناصري والبعثي أو بحجج لا صوت يعلو على صوت الوحدة القومية كما كان يقول الحبيب بورقيبة! وفي الغالب ذبح العقل قربانا للأوهام وأصيب العالم العربي بما يمكن أن نسميه التصحر الحضاري الذي أتى على أخضر الفكر ويابسه وتعطل جهاز الحكمة، لتنبت أشجار ضياع الثقة في النفوس وانهيار المناعة الثقافية وانتشار وباء التقليد للآخرين في الملبس والمأكل والسلوك واللغة والفن وحتى الدين، كأننا أعجاز النخل الخاوية التي ذكرها رب العالمين في القرآن. والغريب أن هزيمة العقل العربي تواصلت حثيثة في عالم استيقظ منذ عقود على نداء العولمة ووحدة المصير وكونية القيم الإنسانية، فهربنا نخفي رؤوسنا وراء الخصوصيات المزعومة، حتى ضاق العالم بنا ذرعا ولم يعد يتحمل ترددنا وفرارنا إلى الأمام وأصبحنا مهددين لا في خصوصياتنا بل في وجودنا لتزحف علينا الأمم الأخرى الأقوى وتبتلعنا بخصوصياتنا بلع القرش للسمكة الهزيلة الضائعة. إن الحكم الصالح هو صمام الأمان ضد التهميش والضياع، لأن الاستبداد هو الرحم الذي ينمو فيه العنف والإرهاب والتخلف. وللحكم الصالح شروط وقواعد ثابتة أكدت جدواها في مجتمعات أخرى، يتعاون في توفيرها الحاكم والنخبة والمجتمع المدني. أملنا ألا نكون نحلم.