07 نوفمبر 2025
تسجيللا يمكن أن ينكر عاقل مناخ الريبة والترقب الذي يخيم على بلادنا الآمنة لا منذ الثورة كما يدعي الأغبياء بل في الحقيقة بسبب تراكم الأخطاء وسوء الخيارات منذ جيلين من التوانسة أي منذ أن استقلت تونس عن الاستعمار الفرنسي ورممت الدولة الوطنية فقام الزعيم بورقيبة بوضع مؤسساتها مستعينا بالكفاءات التونسية في الإدارة وتم إنجاز مكاسب شعبية تمثلت في مقاومة القبلية والعروشية وفي تعميم التعليم المجاني ونشر مستشفيات للقضاء على الأمراض وتركيز السلطات الإدارية والبلدية وتأسيس جيش وطني وسلك أمن جمهوري وقضاء ومحاكم مما حصن المجتمع التونسي مؤقتا من الهزات الخطيرة ونشأت بفضله أجيال متعلمة تسلمت مصير البلاد باقتدار. لكن هذه المكاسب لم تكن في مأمن أمين من خطرين مهددين: الخطر الأول هو اختيار الزعيم لنهج الحكم الفردي شبه المطلق كرد فعل سريع ضد مؤامرة 1962 وخوف الزعيم مما سماه شبح الفتنة والفوضى فرفع شعار (الوحدة القومية) وهي تعني التفاف الجميع حول قرارات الرئيس من دون تردد وبلا مناقشة وهذا الخيار الخطأ هو الذي جر البلاد إلى أزماتها التاريخية المعروفة مثل أزمة التعاضد التي ورطت المجتمع في سياسات لم يكن مهيأ لها واختار الزعيم أن يضحي بكبش فداء هو أحمد بن صالح ومن عمل معه من كوادر تونسية عالية عوض التراجع السليم والسلمي والجريء عن خيار تعميم التعاضد دون المظالم التي طالت أحمد بن صالح والتي أفقدت الدولة هيبتها ومصداقيتها لكن قيض الله لتونس بالصدفة رجلا وطنيا هو الهادي نويرة رحمه الله فرمم ما تبقى من أنقاض الدولة وأعاد الثقة للمواطن وعاشت بلادنا أفضل عشرية بعد استقلالها لأن الزعيم اضطر إلى الابتعاد عن الشأن العام بسبب تراكم أمراضه ورفعت أيدي زوجته وحاشيته بعض الشيء عن التدخل المباشر في شؤون الحكم. ثم جاء محمد مزالي كرئيس للحكومة في مناخ متعفن بعد أن وقعت كارثة التصادم بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة وتوجت بالإضراب العام ليوم الخميس 26 يناير 1978 وانتهاء الأحداث بتدخل الجيش ومقتل 150 متظاهرا. وتزامن هذا التأزم الاجتماعي مع عملية قصفه المسلحة بإيعاز من جارنا معمر القذافي في يناير 1980 فكان الجو العام ملغما وقابلا للاشتعال لكن وعي الشعب التونسي ونخبته أعطى للدولة فرصة لترميم النسيج السياسي والنقابي الممزق لمدة قصيرة حتى وقع التصادم الثاني والأخطر بين المتنافسين على وراثة الرئاسة وتقاسم تركة الرجل العجوز وبدأ العد العكسي لهيبة الدولة واستقرار المجتمع بمظلمة أخرى من صنف المظالم التاريخية بالتصفيات القضائية والمحاكمات الكيدية وضربنا في أرض الله في المنافي لمدة 14 عاما. وعندما تسلم زين العابدين بن علي السلطة بانقلابه الطبي تنفسنا الصعداء معتقدين أن هذا الرجل العسكري غير معوق بماضيه ويمكن أن يكون جسر تحول ديمقراطي لإصلاح الأخطاء البورقيبية ووضع البلاد على المسار الصحيح لكن يا خيبة الأمل فما أن استقر الحكم له حتى بدأت التصفيات الجديدة والتنكر لوعود السابع من نوفمبر وتدشين عهد الحكم المطلق بالتحالف بين المافيات المتوحشة والفساد الشامل والإعلام المأجور وهو ما أدى إلى حركات الاحتجاج بسبب تفاقم الظلم الاجتماعي وشيوع البطالة. أما الخطر الثاني فهو تهميش المناطق الداخلية المنسية من برامج التنمية على مدى ستين عاما. اليوم نحن على أبواب أزمة إقليمية تتجاوزنا جميعا ليس لدينا عصا سحرية لمعالجتها لأن أسبابها عالمية تهدف إلى تقسيم جديد للدول على قياس مصالح القوى العملاقة والإقليمية وهذه حقيقة ما سيحدث في ليبيا من تدخل عسكري وشيك ستكون تونس فيه الحلقة الأكثر تماسا مع تداعياته المباشرة. إني أسمع هنا وهناك في بلادنا اقتراحات وتوصيات بشأن الحصانة الأمنية والعسكرية وهي ضرورية إلا أن قوة بلادنا الحقيقية ليست في المزيد من حفر الخنادق بيننا وبين الجارة ليبيا بل في تعزيز جبهتها الداخلية بإنجاز الإصلاحات الكبرى التي يحتمها الوضع الراهن وتقتضيها مستحقات ثورة شعبية لا يمكن إنكار مشروعيتها. إن التردد الذي نلمسه لدى الحكومة هو مضيعة لوقت ثمين يجعل المجتمع هشا وقابلا لأي تلاعبات بخياراته وردود أفعاله فالجبهة الداخلية القوية هي الصخرة الصماء التي تكسر رؤوس كل من ينطحها وقد وعد الرئيس الباجي قايد السبسي بأن تكون سنة 2016 سنة الجرأة في إنجاز الإصلاحات الضرورية وعند اطلاعي على برنامج أعده مجلس مكلف بإعداد خارطة طريق للإصلاحات الكبرى يديره وزير سمي لهذا الغرض هو السيد توفيق الراجحي فوجئت بالطابع الفني والتقني المحض لبعض الاقتراحات حول تعديل النظام البنكي وترتيب أولويات مالية في الميزانية أي اقتراحات ليست جذرية ولا تغير بعمق ما نسميه منوال التنمية فالمطلوب هو وضع برنامج لتحويرات سياسية بل وحضارية بشكل شامل حتى نواجه العراقيل في الأداء ونوفر التنمية ونفعل آليات التشغيل ونوزع ثروات البلاد بالعدل ونواجه مواقع الفساد والبيرقراطية والتعطيل بجرأة كبيرة أي بقرارات سياسية وحضارية لا بلمسات خفيفة يراها هؤلاء التكنوقراط ضرورية بل لعلها كذلك لكنها تظل مبتورة وعاجزة عن تأهيل بلادنا للعودة لحركة التنمية والاستقرار ونبذ العنف والسلام الاجتماعي. ثم لماذا سيدي رئيس الجمهورية وسيدي رئيس الحكومة عوضا عن الاكتفاء بهذه التعديلات الطفيفة لا تفتحوا باب استشارة وطنية شاملة يشارك فيها مجلس النواب والمنظمات الأربع الفائزة بجائزة نوبل ونخبة تختارونها من بين الكفاءات الجامعية والعلمية والجمعيات العديدة الموزعة في كل أنحاء البلاد ثم تخرجون باستنتاجات عملية قابلة للتنفيذ في إطار إمكانات الدولة وهذه الفريضة الغائبة تحمست لها كل هذه الأطراف للخروج من حالة الاحتقان من أجل تحصين تونس من الأخطار الداهمة ليجدها الأشقاء والأعداء قلعة قوية راسخة عصية عن أي استعمار مباشر جديد محتمل.