12 نوفمبر 2025
تسجيلفي سورة غافر، قصة عجيبة لرجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، لكنه في وقت معين حاسم يخرج أمام فرعون، لا ليعلن إيمانه بشكل مباشر، ولكن إيمانه دفعه لقول الحق ويثني الملك المتجبر عن جريمة قتل نفس بريئة هي نفس موسى عليه السلام. خروجه في الوقت المناسب ووقوفه أمام فرعون، ليس بالأمر السهل، فلم يكن أحد في عهد فرعون يقدر أن يرمش في حضرته، فضلاً عن أن يناقش قراراته وأمام الحضور من الوزراء والمستشارين، لكن هذا الرجل المؤمن فعلها وكان صاحب منطق وحجة. كان يريد أن يوقف جريمة قتل سيأمر فرعون بها بعد قليل، ولن يتردد أحد في التنفيذ، الكل يتطلع إلى كسب رضاه، قتل موسى لم يكن بالأمر الذي يأخذ الوقت أو الجهد. ومن هنا وقف الرجل المؤمن أمام الجميع ويتساءل (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟ ما المشكلة أن تكون لشخص عقيدته الخاصة، يؤمن بمن يراه أحق بالإيمان والعبادة والطاعة. فهل هذه جريمة توجب القتل؟. لم يكتف الرجل المؤمن ويتوقف عند ذاك الحد، بل نقلهم إلى مشهد آخر حتى لا يثير الحنق والغيظ في نفوس الحاضرين بسبب معاكسته لتوجهات فرعون، فأتاهم من باب المصلحة العامة، فقال لهم (وإن يك كاذباً فعليه كذبه) أي إن تبين لنا كذب موسى، فإن هذا الكذب سيرتد عليه ويتحمل هو بنفسه جريرته وهو الخاسر في نهاية الأمر، دون أن تتورط الدولة في أي مشكلة معه. أي أن القتل سيضعف من مكانتهم كدولة وكأمة لم تستطع الرد على منطق شخص واحد معارض. ثم قال كفرضية أخرى جيدة (وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم) أي لو كان صادقاً في دعوته فلن تخسروا شيئاً، لا دولة ولا شعبا. بل ستكون صحة دعوته إنقاذاً لنا كدولة وكشعب من عذاب الله وخاصة أننا في خير ونعمة (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض. فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا). المشهد يتكرر في مكة هذا المشهد يكاد يتطابق مع مشهد آخر في زمن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وكان يقوم بدور الرجل المؤمن من آل فرعون، رجل حكيم من قريش هو عتبة بن ربيعة، ولكن الفرق أن عتبة لم يؤمن، لكنه كان بنفس منطق مؤمن آل فرعون. مما يروى من قصص عن تلك الفترة أن صناديد قريش اجتمعوا وقرروا الدخول في مفاوضات مع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كطريقة لوضع حد مما يجري على الأرض.. فبعثوا أحكمهم، وقالوا: لا نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقد كان من حكماء قريش وأكثرهم دعوة للتهدئة في التعامل مع هذا المتغير الحاصل في مكة، ولم يكن يؤيد كثيراً الآراء المتطرفة التي كانت لدى أبي جهل مثلاً كالتعامل العنيف مع الدين الجديد.. ولحكمته وهدوء تعامله مع المتغيرات، اختاره زعماء قريش للقيام بمهمة التفاوض. قام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.. فإن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا.. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم. حـم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون، بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون"، ثم انتهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك! فقال صلى الله عليه وسلم: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فبدأ عتبة يصف لهم ما جرى. قال: سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.. يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكهُ مُلككم وعزّه عزّكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا وعلى رأسهم أبي جهل: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. لاحظ أن المشهدين لم يختلفا في الفكرة والمنطق نفسه. الأول يريد إيقاف جريمة بحق نفس بشرية بريئة وما يمكن أن تنتج عنها من عواقب ونتاج غير محمودة، والثاني يريد أن يقوم بالعمل نفسه، لأن تورط قريش بالدخول في عراك سياسي أو عسكري مع النبي – صلى الله عليه وسلم – من شأنه التأثير على مكانة قريش بين العرب، بالإضافة لما يمكن أن يحدث على الأرض من مشكلات لا حصر لها. لكن تجنب كل تلك التعقيدات، وانتظار ما ستسفر عنه دعوة النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – هو الرأي الحكيم عند عتبة، وقد قالها وكررها مرات عدة: فإن تصبه العرب، فقد كفيتموه بغيركم. أي إن كانت دعوته كاذبة وما اقتنعت العرب به وقتلته، فهذا ما ترغبه قريش ولكن دون أن تتورط في الدم والإساءة إلى مكانتها السياسية. ثم قال: وإن يظهر على العرب فمُلكهُ مُلككم وعزّه عزّكم وكنتم أسعد الناس به. أي إن جرت الأمور عكس ذلك، فإن المجد الذي سيحصل للنبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – سيكون تلقائياً مجداً لقريش بالضرورة، على اعتبار أن الدعوة وصاحبها – صلى الله عليه وسلم – من هذه القبيلة.. الفراعنة عقبات في كل زمن لكن على رغم أن مؤمن آل فرعون استطاع تغيير ما عزم القوم عليه، إلا أن النفسية الفرعونية العنيدة المتجبرة، لم ترد أن تخرج خاسرة، فاستمر فرعون في الاستهزاء بموسى وربه (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى. وإني لأظنه كاذبا. وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب). أراد أن يقول للناس إن رأيه هو الصحيح وأن موسى كاذب يدعي خبر السماء حتى انتهى به عناده وجهله إلى الغرق في اليم مع جنوده، وبئست النهاية. أما في المشهد الثاني، فكان أبوجهل في دور فرعون تماماً. حيث لم يقتنع بعبارات عتبة وقام يشتت انتباه الناس وحملهم على الرأي الذي يراه صواباً، واستمر في معاداة الدين الجديد وصاحبه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، إلى آخر لحظة من حياته، التي انتهت بجز عنقه بيد رويعي الغنم، عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه - في معركة كان قد قاد قريش إليها، وكثيرون كارهون لها، منهم عتبة بن ربيعة. حيث أودت بحياتهم وسبعين من أشرافهم، ومن بينهم عتبة، الذي لم تنفعه حكمته ها هنا، وغلبته مفاهيم سائدة منذ القدم وإلى يوم الناس هذا، من تلك التي تدور حول أهمية كلام الناس، وإن كانت ضد كلام رب العالمين وضد مصالح العباد والبلاد.. فكانت النهاية البائسة. [email protected] -