08 نوفمبر 2025
تسجيللقد بات من المؤكد أن الثورات (أو الانتفاضات) الشعبية العربية هي حقيقة واقعة سيكتب عنها التاريخ والمؤرخون الكثير، وستكون مصدر إلهام لشعوب أخرى في إعصار وأزمان آتية.. هذه الحالة وبما تعنيه من إعادة تنظيف وصياغة مفاهيم وثقافة الأمة تجاه نفسها وتجاه الآخر.. ربما – وبدون مبالغة - لا يضارعها ولا يوازيها إلا لحظات معينة في التاريخ الإنساني كانت فارقة بين مهانة أمة وعزتها، وبين ما ترتضيه عن طواعية واقتناع وما يفرض عليها عن قسر وعنجهية.. ولنأخذ على سبيل المثال ما جرى ويجري في مصر من تحولات (وليست التحولات مقصورة على مصر ولا محصورة فيها).. هل يستطيع بعد اليوم أي رئيس جمهورية قادم في مصر - فضلا عن رئيس وزراء أو وزير في أي وزارة وفضلا عن أي موظف يوصف بالكبير أو الصغير – هل يستطيع أن يلفلف الناس أو يسرق البلد أو يعبث بالانتخابات أو يفكر في توريث ابنه أو يحكّم زوجته وأنسباءه؟ وهل سيقتصر أثر هذا التحول الجاري في مصر عليها وحدها أم سيعم المنطقة كلها بما لمصر فيها من ثقل وما تتبوأه من موقع وأثر؟ أليس قد صار اليوم باستطاعة مجموعة من الشباب ليس بالضرورة أن يكونوا بالملايين ولا حتى بمئات الألوف أن يؤثروا على أعلى قمة الهرم السياسي وقراراته؟ أليس قد صار ممكنا أن يتآلفوا ويتحالفوا من دون حزب يشك في ارتباطاته ولا بتنظيم يسهل استئصاله؟ أليس ذلك مؤثرا في استقامة الحاكم وفي حرصه على رضا شعبه؟ وإذا كان ذلك كذلك أليس سيكون مؤثرا توقف نهب المال العام وفي إصلاح تربية النفوس وأن يزغ الله في السلطان ما لم يزغ في القرآن؟ ألسنا نرى كيف صار من الحكام من يطارد لا يهدأ في إجراء تعديلات شتى وإعطاء وعود تترى اتقاء ثورة شعبية تجعله في مقام فلان وعلان ممن تهتز الأرض من تحت أرجلهم وتنفلت الأزمة (جمع زمام) من أيديهم؟ أليس لكل ذلك علاقة بثقافة شعوبنا تجاه ذاتها وحكامها؟ وتجاه الآخر المُصالح والآخر المُعادي والآخر المُحايد والآخر المُتحكم من قريب أو من بعيد؟ وإذن؛ أليس لكل ذلك علاقة بحاضر ومستقبل وقضايا الأمة كلها؟ إننا نتحدث – إذن - عن تغيير جذري سيغير وجه التاريخ وسيجعل فترة الاستعمار الغربي وما تلاها من تركيب نظم محدودة (محدودة الاستقلال والقدرة بل وكثير منها محدودة الوطنية) سيجعلها فترة ناشزة ومنبتة عن تاريخ الأمة ورسالتها وهويتها.. ونتحدث عن امتحان لكل ذي موقف إن كان مع الشعوب والثورات والحراكات أو ضدها، وإن كان مع تيار التغيير أو كان يعاكسه، لقد تجاوزت القضية المجاملات العاطفية والقضايا المهمشية، ولم يعد لأحد أن يقول (وأنا ما لي خليني في حالي) أو يقول (تبعد عن راسي وتطب) أو أن يمنّيَ نفسه بالسلامة دائما أو أن يناور بين المواقف، وبالأخص هنا النظم التي تريد أن تكون محترمة ووسائل الإعلام والهيئات والأشخاص من علماء وقادة الفكر والرأي في الأمة الذين تعودنا منهم أن يكونوا في مقدمة الصفوف وألا يتخلوا عن الواجب.. من هذا المنظور يجب النظر إلى مواقف دولة قطر التي اتسمت بالإسلامية والعروبية والمبدئية والجرأة والأخلاقية والإنسانية، بقدر ما تميزت بالحكمة والإنصاف والتزام القانون الدولي والحفاظ على تقاليد العلاقات بين الدول.. نعم لقد تجاوزت مواقف قطر من هذه الحراكات التهرؤ العربي وتجاوزت موقعها الجغرافي وتجاوزت مصالحها الخاصة.. وكان باستطاعتها أن تريح نفسها وأن تتخذ الموقف الأسهل في كل المحكات وأن تكتفي بالكلام كما يفعل آخرون حولها ممن أصواتهم أعلى من حقائقهم.. لقد نجحت وببراعة في الاختبار القيمي والأخلاقي الأخير وفي اختبار المصداقية بالأخص عندما انتقلت الأحداث من مصر وتونس – البعيدتين نسبيا - إلى داخل الإقليم الجغرافي والسياسي دون أن يختلف أداؤها أو تتلون مواقفها.. من دلائل هذه المصداقية التفاف الشعوب حول مواقفها وفي هذه الحالة لا يعني كثيرا ما تقوله السلطات الرسمية في أي بلد في مقابل ما يقوله شعب ذلك البلد ونخبه ومخلصوه ومقاومته، فلا يهم ما يقوله القذافي مثلا إذا كان الشعب الليبي يرفع العلم القطري بجوار علم الاستقلال الذي يعتز به.. يجدر التذكير هنا بأن معادلة قطر بسيطة ولكنها جريئة وحاسمة في الوقت نفسه.. فقد فهمت كيف تستثمر مواضع قوتها وكيف تستفيد من علاقاتها وكيف تضع لكل موقف مبرراته وحساباته.. موقف الشيخ القرضاوي وإخوانه في اتحاد علماء المسلمين وغيره من الهيئات العلمية الذين كانوا صرحاء في دعم الشعوب وتبني ثوراتها كذلك يجب النظر إليهم من نفس المنظور، وليس لأحد أن يتوقع غيابهم عن المشهد الملحمي للأمة لا بذواتهم ولا باعتباريتهم ولا بما يمثلون من قيم الدين وقيادة الفكر لا مجاملة لأحد ولا خوفا منه ولا تحت أي مبرر.. فإن لم يكن للعلماء كلمة فيما يجري الآن ففيم تكون كلمتهم؟ وإن لم تكن مواقفهم متقدمة وناصعة ومع الشعوب وضد الظلم والمظالم والظالمين؛ فهل تكون سوى ذلك؟ وما سوى ذلك؟ أم أن العلماء يطلبون فقط للموافقة على مواقف بعينها ليقولوا كلمات بعينها في وقت بعينه ثم يتركون ويستثنون ويستثقلون؟ أليست هذه الأحداث في صميم السلم الأهلي وفي جوهر الإصلاح الوطني وتتعلق بأكثر من وشيجة بالدين؟ فكيف إذن يتوقع أن يغيب عنها العلماء بما يحملونه من أمانة وبما يمثلونه من إمامة؟ وهل ما تجلبه عليهم الصراحة في الحق من مصادمة مع الباطل ومن إساءات واتهامات وافتراءات هو الحكم الوحيد على ما يقولون وما لا يقولون؟ من ذات المنظور أيضا يجب تقييم قناة الجزيرة الفضائية وشقيقاتها من قنوات أبدعت في نقل الحقيقة بل في صنعها وفي رفد الثورات بالخبرات والإنصاف الإعلامي.. لقد صارت جزءا من الأحداث وبلغت من احترام وثقة الشعوب بقدر ما بلغت من حنق وغيظ وتشويه واستهداف الخاسرين في مواجهة شعوبهم والمتضررين من نقل الحقيقة.. وهل يريد المنزعجون من هذه القناة وأخواتها أن تطبل (وتزمر) لنظم مقتتها شعوبها؟ أم يطلبون منها أن تكون نسخة عن الـ (596) فضائية عربية لا تغني من جوع ولا تسمن من شبع؟ وإن فعلت فمن ذا الذي سيستمع لها أو يتابعها؟ الحقيقة هي أن قناة الجزيرة في حالها حتى الآن - ونتمنى أن تثبت على مهنيتها العالية وعلى ولائها الوطني والقومي - هي قناة الشعوب وقناة الثورات وقناة (السدة والردة)، والعدو لا ينفك ينظر لها على أنها جزء من مواجهته ومن أهم حواسم معاركنا معه.. وردت أخبار أخيرا عن مخطط إعلامي يدشنه العدو ليقف في وجه قناة الجزيرة أو ليكون ضدها على شاكلتها، ونتذكر ما قال الإرهابي (يوآف جالانت) قائد ما يسمى (المنطقة الجنوبية في جيش العدو) بعد عدوان 2008 على غزة عندما اعتبر الإعلام أحد حواسم تلك الحرب وخص الجزيرة بالكثير مما قال.. ولا يجوز أن ننسى أن الجزيرة هي ذاتها الجزيرة التي استشهد بعض طواقمها أو اعتقلوا والتي قصفت مقراتها في العراق وأفغانستان ويقال إنهم فكروا في قصفها في الدوحة. . آخر القول: ليس لأحد أن يتخلى عن المشاركة في نهضة الأمة وترسمها المستقبل الواعد تحت أي مبرر، ولا يجوز أن تتحدد المواقف على أساس العوائد أو المجاملات.. والأكيد أن الكثير من الاتهامات في هذا المعترك إنما هي كيديات ونكايات لا تمتلك من الاحترام أو الموضوعية أزيد مما يمتلكه الظلم والاستبداد الذي تمثله أو تدافع عنه.