12 نوفمبر 2025
تسجيلإذا كان ثمة مجموعة واحدة اعتلت سلم الشهرة وسرقت الأضواء من بقية الأحداث والظواهر في أعقاب الربيع العربي، فإنها الجماعات الإسلامية التي سيطرت الآن على مقاليد الحكم في غالبية دول الربيع العربي بعدما كانت محظورة في يوم من الأيام من قبل الحكومات الديكتاتورية، بعد فوزها بالأغلبية في كل من تونس ومصر. وتباينت آراء الناس في العالم العربي حول سيطرة الجماعات الإسلامية في دول الربيع العربي بين مؤيد ومتحفظ، فهناك من يتوجس خيفة من أجندة الجماعات الإسلامية ويشكك في تطبيق هذه الجماعات الإسلامية لمبدأ الديمقراطية. وفي الجانب الآخر نجد من يرحب بظهور الجماعات الإسلامية إلى السطح السياسي كدرع واقي للفوضى التي سادت في أعقاب ثورات الربيع العربي، أو كما يعتقد البعض بأنهم يخافون الله أكثر من غيرهم. وتعيش دول الربيع العربي هذه الأيام حالة من الحراك السياسي أدى إلى سجال محتدم بين علمنة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية، وفي الحقيقة هذا يعتبر صراعا سياسيا وصراع على السلطة أكثر من كونه خلافا أيديولوجيا فكريا وفلسفيا، وأصبح هذا السجال يتعمق يوما بعد يوم بين مختلف الأطياف، وصارت هذه الصراعات هي الهم الشاغل الآن بدلا من البحث عن رؤية واضحة ترسم ملامح المستقبل الجديد في العالم العربي بعد الثورات التي أطاحت بالأنظمة الديكتاتورية، ومما فاقم هذا الصراع انخراط بعض الجماعات الإسلامية في مستنقع السياسة أكثر من اهتمامها بتغيير حركة المجتمع الفكرية وتفعيل دورها المجتمعي الإيجابي، فدخول هذه الجماعات الإسلامية بقوة في خضم الصراعات السياسية لتطبيق منظومة الأفكار والأهداف الخاصة بالإسلام السياسي يمكن أن يقود إلى نهاية عدد غير قليل من هذه الجماعات، بالإضافة إلى أن إخضاع الإسلام إلى متطلبات السياسة والمصالح الضيقة والصراعات الممقوتة هي التي تزيد من حدة الصراعات السياسية بين جميع فئات المجتمع. ولا ندري ما هو جدوى الصراع والسجال الدائر بين فكر الدولة الدينية والدولة المدنية، "فالدولة في الإسلام مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها سوى أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية"، كما قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (الدين والسياسة)، وأكبر دليل على مدنية الدولة ما حدث في المدينة المنورة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وميثاق المدينة، فالدولة المدنية هي التي تضمن تعزيز قيم السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات وتحافظ على المجتمع وتحمي أعضاءه، وتصون حقوق جميع المواطنين باعتبارها دولة القانون والمواطنة، والدولة المدنية لا تعادي الدين أو ترفضه، بل على العكس، فالدين يظل في الدولة المدنية عاملا أساسيا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم، ولكن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، فالإسلام أسمى من أن يتحول في عالم السياسة إلى مجرد موضوع خلافي وجدلي وتفسيري، وهو أنقى من أن يختلط بالمقاصد السياسية والمصالح الدنيوية الضيقة. ولكن البعض ينادي بالدولة الدينية حتى يستطيع أن يصدر الأحكام ويتحكم في الناس باسم الله، حيث لا حكم إلا لله، وحتى تكون هناك ذريعة لقمع أي خلاف سياسي بين أطراف المجتمع باعتباره خلافا مع الله، مما سيعود بالناس إلى الدولة الدينية كما كانت في العصور الوسطى في أوروبا، وإذا ما وصل الأمر إلى ما آلت له أوروبا في العصور الوسطى، فإن ذلك سوف يقود إلى ثورة أخرى، ولكن هذه المرة سوف تكون ثورة على الدين ستأتي أُكُلها لصالح أطراف خارجية. إن الدولة العباسية والأموية وبقية الدول التي انتشرت في المنطقة العربية لم تكن دولا دينية، بل كانت شريعتها الإسلام، علما بأن تلك العصور كانت من العصور الذهبية للأمة الإسلامية والعربية، حيث انتشر فيها العلم والفن وهندسة البناء والعمارة الإسلامية، ولكن ما يحدث اليوم من قبل بعض المتشددين وأفكارهم الاستبدادية التي ينوون تعميمها وتطبيقها على كافة أطياف المجتمع لهو دليل على فهم خاطئ للدين وللسياسة، أصبح معه هؤلاء القلة ميكافيليين لدرجة الاستبداد والقتل، فالإسلام دين وثقافة للأمة العربية، فهو دين للمسلمين وثقافة لغيرهم، ولم تأمرنا مبادئنا الدينية الإسلامية الحنيفة أن نقوم نحن كشعوب عربية وإسلامية بإبادة ثقافات الشعوب الأخرى باسم الإسلام أو تحت غطائه.