05 نوفمبر 2025

تسجيل

قطر بين الأمس واليوم

20 ديسمبر 2023

ليس من مألوف عاداتي الكتابة عن الحكام لا بالتقديس ولا بالتبخيس، غير أن لقطر وشعبها مكانة خاصة عندي ولي فيها أخلّاء أجلاء تقاسمت معهم مواقف أخوية ستبقى محفورة في الذاكرة. هذه الدولة الصغيرة حجمًا الكبيرةُ دورا ومكانة وتأثيرا، انطبع مسار تأسيسها وازدهارها ببصمة متميزة لثلاثة حكامٍ تفردوا بحجز مكان مميز لهم في تاريخ قطر الحديث بشكل خاص وتاريخ المنطقة بشكل عام. أما أولهم فهو المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني مؤسس دولة قطر في الثامن عشر من ديسمبر 1878 وثاني حكام أسرة آل ثاني، الذي قال عنه المؤرخون إنه "من خيار العرب الكرام، مواظب على طاعاته، مداوم على عبادته وصلواته، وهو مسموع الكلمة بين قبائله وعشائره، وهم ألوف مؤلفة…»، فكان كما قالوا "رجلًا من فحول الرجال علمًا وحلمًا ورأيًا ثاقبًا وكرمًا حاتميًّا"، ووصفه المستعرب والكاتب وضابط الاستخبارات البريطاني جون فيلبي بأنه "كان ذا سمعة أُسطورية؛ فاحتفظ بقوته العقلية والجسمانية حتى النهاية، وكثيرًا ما كان يشاهَد وهو يمتطي جواده مع فرقة من الخيالة؛ كلها من أبنائه وأحفاده". غير أن ما كتبه عنه المؤرخ والرحالة والأديب اللبناني أمين الريحاني لافت للنظر فقد قال عنه: «كان يصرف واردات أوقافه على الجوامع والخطباء، بل كان هو نفسه يعلم الناس الدين، ويخطب فيهم خطبة الجمعة، أضف إلى الورع والتقوى فصاحة اللسان، وإلى الفصاحة العلوم الدينية والفقه، وإلى العلوم الضمير الحي واليقين، وإلى ذلك كله الثراء والجود؛ عاش جيلًا ويزيد في قطر، فكان أميرها وخطيبها وقاضيها ومفتيها والمحسن الأكبر فيها". مضى الشيخ جاسم إلى ربه ومضت الأيام ونما الغرس الذي زرعه وتوطد البيت الذي أسس بنيانه وجاء من ذريته المؤسس الثاني "العود" الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني للحكم في السابع والعشرين يونيو 1995، بعدما أنفق سنوات شبابه الأولى باعتباره وليا للعهد ووزيرا للدفاع في بناء القوات المسلحة القطرية ومؤسسات الدولة الصلبة لتكون درعا للدولة وحارسا للسيادة. لا يوصف "العود" بأنه المؤسس الثاني عبثا، فقد اختط لبلده ولنفسه طريقا صعبا محفوفا بالمحاذير كلفه وقطر أزمات عدة حاولت أن تحول دون انعتاق قطر عن الطوق الذي أُريدَ لها أن تبقى فيه فكان أن تحققت أمانيه وتجسدت إرادته، فهو راعي نهضة العمران وتطوير التعليم والبنية التحتية والخدمات، وهو الذي وضع أول دستور لقطر، وأجريت في عهده أول انتخابات للمجلس البلدي، غير أن أبرز ما سيسجله التاريخ له أنه هو مؤسس العقيدة السياسية لدور قطر الخارجي حتى أصبحت اليوم محجا ومقصدا لكل فرقاء السياسة والأزمات من مختلف دول العالم طلبا للوساطة، وما حقق ذلك حتى مكن لبلاده من أدوات وأوراق التأثير في السياسة الدولية، فتبنى منهج الدبلوماسية الوقائية ودور الوساطة فصارت بلاده فاعلا مهما في حفظ الأمن والسلم الدوليين وتلكم هي القوة السياسية، ووسع الاستثمار في حقول الغاز واستغلال المعادن الطبيعية في باطن الأرض وتلكم هي القوة المالية، كما أسس قناة الجزيرة التي تحولت في بضع سنين إلى أداة تأثير بالغ في المشهدين العربي والدولي، وفتح أبواب بلاده أمام النخب والكفاءات من كل حدب وصوب ومن كل تيار ومشرب وتلكم هي القوة الناعمة. وكما أحسنَ العود المُبتدأ أحسنَ المُختتم فقد عجم عيدانه واختار بين أولاده الشيخ تميم وفوّض إليه تصريف الأمور في الدولة لسنوات حتى اشتد عوده وسلمه الأمانة في يونيو 2013 وهو في ريعان شبابه وأسس للانتقال الجيلي للسلطة في دول الخليج وسبق بذلك بقية الدول بسنين. أما الثالث فهو الأمير الحالي الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي أثبت بعد عقد من الحكم أنه على قدر الحِمل والمسؤولية وأن اختياره للخلافة من طرف أبيه كان خيارا صائبا، فهو نسخة عن أبيه لكن بطريقته، تجاوز أزمة 2014 وأزمة 2017 بسلام وسار كأبيه من قبله في حقل ألغام السياسة والحكم، وحافظ على سلامة الدولة التي استؤمن عليها. جاءت معركة طوفان الأقصى لتثبت علو كعب الشيخ تميم، وما الزعماء والمسؤولون والدبلوماسيون الذين كانوا بين رَواحٍ وغُدوّ، من وإلى الدوحة طلبا للوساطة مع المقاومة في غزة، إلا دليل على ذلك. تلكم هي قطر بين الأمس واليوم، نبتٌ زرعه المؤسس جاسم ورعاه العود فزَها وازدهر، وتعهده المفدى بالحفظ والتمكين. ويأتي اليوم الوطني في كل عام تنبيهًا للغافل وإجابة للسائل عن قطر وشيوخها، فكل عام وقطر -قيادة وحكومة وشعبا- تنعم بالاستقرار والنمو والازدهار. كاتب وباحث في الشأن السياسي/ الجزائر