14 نوفمبر 2025

تسجيل

لماذا المعرة والمعري اليوم.. في مأتم أليم؟

20 يونيو 2011

لك الله يا معرة النعمان اليوم وكل يوم، أيتها البلدة الوادعة في سوريا الحبيبة، كم أمسى بك العابرون ما بين حلب وأدلب وحماه فاستمتعوا بمناخك اللطيف وسهولك الخصبة وموقعك الاستراتيجي منذ القديم وقد دلت آثارك العريقة على شأنك العظيم وشهدت بذلك عهود الآشوريين والفراعنة واليونانيين والفرس والرومان، وعشت أبهى زمن المعرفة حين أنجبت أبا العلاء العبقري الشاعر الحكيم الفيلسوف – رغم ما قيل فيه – في العهد العباسي وتنقلت في دروب الأمجاد رغم العواصف الهوج التي ضربتك حينا، وركزت علم الحرية عاليا بعد جهاد طويل مع الغاصب المحتل الفرنسي حتى جلا مهزوماً مخذولاً عام 1946م، ولم تعرفي بعد ذلك إلا حديث النصر والاستقلال والعزة والكرامة حتى هفا قلب العالم الشاعر الشيخ محمد الحامد الحموي ليبدأك سلام المحبة والغرام: حييت يا أرض المعرة فيك المسرة والمبرة فما بالك اليوم غارقة في الحزن والألم بعد الفرح والنشوة بأنك تقومين بدورك الحقيقي في صناعة الحياة الحرة لشعب سوريا الأبي الذي رجالك من رجاله، أفإن انتفضوا وثاروا على الظلم والفئوية والاستبداد والاستعباد من قبل المستغل بعد المحتل وناصروا إخوانهم المظلومين المقهورين في جسر الشغور وقبل ذلك في جميع بؤر الاحتجاج العادلة المحقة في سوريا ضد القتلة المجرمين الهمجيين المتوحشين، ألأجل أحرارك الذين رفضوا وهم جنود وضباط في الجيش أن يصوبوا النار على إخوانهم وأهليهم وعشيرتهم بما فيهم الشيوخ والنساء والأطفال، ألأجل هذا الغرض الدنيء تلقين الجزاء المر من الترويع والتطويق والرمي والقذف بأطنان القنابل من الطائرات إمعانا في قتل الشرفاء الذين عجز الأوغاد عن مواجهتهم، وعجزت الحكمة عند من يدعون الإصلاح كذبا وزورا إلا أن يصبوا ويطلقوا طلقات الموت والجرح والهلع بدل إطلاق الحل المدني السلمي العاقل، أبالدبابات والمدرعات والطائرات تحل الأزمات، لك الله يا معرة النعمان من قوم لا يرعون في شعوبهم إلا ولا ذمة، لئن نزح وهرب الخائفون من ربوعك ليسلموا فهم معذورون ولكن يدك المقاومة كانت ولا تزال إن شاء الله هي الأقوى، لاشك أنك تتذكرين اليوم – والتاريخ يعيد نفسه – كيف كان القرامطة منذ ألف سنة قد هجموا عليك وعلى حماة وسلمية معك كما ذكر الحافظ بن كثير في البداية والنهاية لكنهم وجدوا مقاومة باسلة منك ومن أخواتك في الشام، وبرغم ما اقترفت أياديهم الأثيمة من سفك للدماء وسطو على الأموال ونهب للبيوت وحرق وهتك للأعراض إلا أن جولات الباطل باءت بالإخفاق وانتصرت عليهم وكان جزاؤهم بالقصاص وفاقا ثم رحلوا عن ديار الشام إلى غير رجعة وقتل يحيى بن زكرويه القريطي على أبواب دمشق وعوقب الآخرون في بغداد وتلك سنة الله في الظالمين ولن تجد لسنة الله تبديلا، فاصبري يا معرة النعمان يا قلعة الصمود اليوم وإن كل قطرة دم يريقها السفاكون السفاحون لهي الأنوار التي تنير الطريق للأحرار في الشام وأما أنت يا أبا العلاء يا من ولدت في هذه التربة المباركة ومت فيها، فكنت بصيرا مع أنك كفيف وكنت حرا مع أنك قليل الحركة إلا ما كان من سفرك إلى حلب وأنطاكية وبغداد إقامة لسنة الرحلة في طلب العلم، فيا رهين المحبوسين لم تكن مسجونا كما ظنوا فأنت بعقلك وفكرك في كل العالم، وإن يعترض معترض ويقل إن المعري كان معقدا وملحدا وغامضا في الحياة فإننا وإن وافقنا في بعض النقد لذلك إلا أن النظرة السريعة كما قال المحققون والنقاد العارفون لا تفي ولابد من دراسة مستفيضة بصيرة تميز بين مراحل حياة الرجل وإننا لنحسب أن نهايته كانت في نظراته الدينية والاجتماعية والفلسفية جد موفقة – والله أعلم – والذي يهمنا في هذه العجالة وأبو العلاء ثاو في قبره أن نشم الندى من فيضه الزاخر وجانبه الإيجابي الذي يعطي الضوء ويشعل الهمة في الأمة بعد وصف الداء وتشخيص الدواء، ولا ريب أن أبا العلاء جد حزين في قبره اليوم وهو لا يرى أي اعتبار للعلم والأدب والفلسفة والتراث وأي إكرام لمن حمل تلك المواهب وكما يقولون: (لأجل عين تكرم مرجعيون في الأمثال الشامية ولكن عند من)؟ عند أهل الأصل والمروءة واحترام الناس وكأني يا أبا العلاء وهو يرى بلدته تقصف اليوم بالجحيم والويلات يذكرنا بما رآه من فكر حر تجاه كل ظالم ومستبد ومنافق من الحكام بل ومثلهم من علماء السوء إذ يتحالف أهل السلطة السياسية مع أهل السلطة الدينية التابعة للدفاع عن المصالح والامتيازات واستغلال الناس باسم الدين والشريعة فيصوغون لأنفسهم القمع والإذلال والإرهاب، بحجج هي أوهى من خيط العنكبوت، ويجادل صاحبنا لذلك بالشرع والعقل وهو وإن غلب الثاني من باب أن العقل أصل الشرع كما قال ابن الجوزي في صيد الخاطر لكن الدين والخلق هما في الحقيقة الجانب السلوكي الذي يعتبر الجانب الجوهري الحقيقي للإنسان ولذا اشتدت حملته على المرائين من هؤلاء المخادعين وربما كان هذا ما جمح به على غير عادة البشر عموما أن يعتزل في بيته خاتم حياته أربعين عاما أو يزيد ليعتزل مثل هؤلاء الملوك والأمراء وعلماء النفاق ويكتفي بيسير الرزق بكل عصامية وإن العذر في الذي ذهب إليه من اعتباره أن السلطة ضرورية للبشر ولكن لابد أن تقوم على العدل وقد كان جريئا في ذلك غير رعديد: إذا لم تقم بالعدل فينا حكومة فإنا على تغييرها قدراء وإذا فقد عمل على انتقاد ظلمة زمانه وكشف سوء سياستهم للرعية من باب الأمانة مع أنهم لو قورنوا بأهل زماننا من أمثالهم لكانوا عادلين ربما، وإن المعري إذ يعتبر أن أقوال وأفعال الساسة حساسة فإنه يسخر من ألقابهم التي لا يستحقونها إذ السياسة كما يقول ابن خلدون: حسن التدبير يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسه! ويستغرب كيف أنهم أجراء عند الأمة ولكنهم لا يقومون بوفاء عقد الإجارة سواء بالانتخاب أو التعيين بل يظلمون دون اكتراث: ظلموا الرعية واستجازوا حقها وعدوا مصالحها وهم أجراؤها أجل إنه فضح الحكام وتناولهم لأنه عاش بينهم مظلوما في الغالب وتناول هوامير الغنى لأنه عاش فقيرا وقد حق له أن يشعر بهذه الآلام فهو الحسيب النسيب من أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية ونسبها إلى يعرب بن قحطان وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين ومنهم جنود الفتوحات وكذلك فهي أسرة علم وفقه نجده كان قاضي المعرة وولي قضاء حمص ووالد أحمد عبدالله كان شاعرا فحلا وأخوه كذلك. وقد ابتلي باليتم وهو ابن 14 عاماً بعد موت أبيه ثم ماتت أمه بعد ذلك وقد كف بصره وهو صغير ولكن هذا الرجل العبقري الحكيم جاء بكتب وتراث جعلته كما قال: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل وقد بقيت آثاره موردا لا ينضب لشدة العلم والأدب والدرات النقدية، فضلا عن الإبداع بما في ذلك رسالة الغفران التي تأثر بها "دانتي" في ثلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية" ثم لزومياته في كهولته التي بلغت 13 ألف بيت شعر. أما نقده للعلماء الذين يوالون الحكام الظلمة وهم طامعون في الدنيا فإنه لم يقصر في فضحهم وأنهم فتنة: سبح وصل وطف بمكة زائرا سبعين لا سبعا فلست بناسك جهل الديانة من إذا عرضت له أطماعه لم يلف بالمتماسك أنى ينال أخو الديانة سؤددا ومآرب الرجل الشريف خسائس لكن الجوانب النفسية المشرقة إنما تأخذ نورها من مثل المعري في إيجابياته وهذا ما يدفعنا للقول إن حكامنا اليوم في سوريا لوحوا لبعض هذه الجوانب بل واحدا منها لما دخلوا المعرة مهاجمين قاتلين تاركين أبا العلاء باكيا في قبره، وما أشبه الليلة بالبارحة فأبو العلاء الذي لم يخرج من بيته آخر حياته، دعاه قومه ليشفع لهم عند أسد الدولة بن صالح بن مرداس صاحب حلب وكان قد خرج بالجيش إلى المعرة بين عامي 1026-1027م، ليخمد حركة عصيان حدثت هناك فخرج أبو العلاء متوكئاً على رجل من قومه فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال وأحسن استقباله وسأله أن يسمعه سجع الحمام لا زئير الأسد فرضي بذلك ورحل عن المعرة فهذا هو الأسد حقا حقا لا الذي يقتل ويجرحهم ويشردهم عليه من الله ما يستحق أجل إن أبا العلاء حزين في قبره جدا لأنه لم يعد محترما في بلدة المعرة وهو المحترم في العالم أجمع وهو ما أشار إليه الجواهري الشاعر الكبير سادها المعري والمعرة: قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا [email protected]