16 نوفمبر 2025
تسجيلعندما يطلق تعبير الأمن القومي، ينصرف الذهن إلى مجموعة العناصر الضرورية للحفاظ على بقاء الدولة ووجودها وتحقيق مصالحها العليا. وهناك من يفرق بين المفهوم الضيق والمفهوم الواسع للأمن القومي، فالمفهوم الضيق يتعلق بالأمور ذات الطابع العسكري، كمقاومة العدوان الخارجي، وانتهاكات الحدود، وكل ما يمس سلامة إقليم الدولة وتكامله. أما المفهوم الواسع فيربط الأمن القومي بكل من الأبعاد العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فقضايا مثل البطالة وانتشار معدل الجرائم والفساد وسوء مستوى التعليم والفقر وأزمة الإسكان وانتشار العشوائيات والتعدي على الأرض الزراعية، واحتكار رؤوس الأموال، والاستيلاء على أراضى الدولة، والتفاوت الكبير في مستويات الدخول، والازدحام واختناق المواصلات، وتلوث البيئة، وسوء الخدمات الصحية والتعليمية، وانتشار الأمراض الوبائية، كل هذه القضايا تعتبر الآن من قضايا الأمن القومي في العديد من البلدان التي قطعت شوطا من التقدم.المشكلة أن تطبيق هذا المفهوم بشقيه في الحالة المصرية يشهد الكثير من الإشكاليات، فوفقا للمفهوم الضيق الذي يربط الأمن القومي بحماية الحدود من الاختراقات الخارجية، حدثت على مدار الفترة السابقة، العديد من الخروقات الحدودية التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية، والتي تعقبت فيها من تصفهم بالجهاديين، فهل لم يؤثر هذا التعدي على الأمن القومي، أم أن الاشتراك في الغاية بين نظام 3 يوليو وإسرائيل يبرر التغاضي عن مثل هذه الخروقات على اعتبار أن نظام الانقلاب يشن بدوره حربا واسعة، تحت نفس المبررات، ضد من يسميهم العناصر التكفيرية.أما وفقا للمفهوم الواسع للأمن القومي فهناك أيضا العديد من الإشكاليات، فمن الواضح أن نظام الانقلاب لم يقم بأي إجراء من شأنه معالجة حالة الركود الاقتصادي أو الاضطهاد السياسي أو الانقسام الاجتماعي أو الأمراض والأوبئة والتلوث التي يعاني منها المصريون واتخذها البعض منهم ذريعة للمشاركة في التظاهر ضد النظام الشرعي المنتخب في أحداث الثلاثين من يونيو 2013. وإذا لم يكن الأمن القومي يعني حماية حدود الدولة ومجالها الحيوي ولا حماية النسيج الاجتماعي وأمن الأفراد وكرامتهم فما الذي يمكن أن ينصرف إليه هذا المصطلح؟ تكمن الإجابة عند مؤيدي الانقلاب الذين تتطوع البعض منهم ببيان المقصود من هذا المصطلح عبر محاولات اتسمت في مجملها بالخفة وعكست حالة الارتباك العامة التي يعاني منها الانقلاب وأنصاره.البعض من هؤلاء، على سبيل المثال، اعتبر أن الأمن القومي يشير إلى الاستمرار في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، على اعتبار أنهم الخطر الأساس الذي يهدد استمرار الدولة المصرية وتماسكها، وذهب أنصار هذا الرأي إلى أن أي تفكير في المصالحة مع الجماعة وقادتها يعد تهديدا للأمن القومي المصري، لأنه يعني قبولا بالإرهاب، وفتحا للباب أمام مخططات تقسيم البلاد، وذلك بوصف الجماعة (كما هو معلوم وفقا لهؤلاء) جزء من مؤامرة كونية لتقسيم مصر وإقرار سايكس بيكو جديد!من ناحية أخرى اتخذ البعض من الأمن القومي ذريعة لحجب الحقائق والعودة لأجواء نظام مبارك حينما كانت الشفافية إحدى المستحيلات، فمؤخرا اعتذرت اللجنة المكلفة بتقصي الحقائق حول الأحداث التي شهدتها البلاد بعد 30 يونيو 2013 عن كشف تفاصيل ما توصلت إليه من نتائج، والسبب أن المعلومات الواردة بالتقرير تمس الأمن القومي المصري. وهكذا أصبح "الأمن القومي" مبررا لتعطيل مجرى العدالة، ومسوغا للقبول بالأوضاع الراهنة أيا ما كان مقدار ما تحمله من ظلم وانتهاكات.أشكال الافتراء على مفهوم "الأمن القومي" لا تنحصر فيما سبق، وإنما أصبح المصطلح أيضا مدخلا لتمرير مواقف سياسية انتهازية وأسلوبا لإضفاء المصداقية على ممارسات مبتذلة، فقد صرح رئيس حزب مصر الحديثة بأن ترشح المشير السيسي لرئاسة الجمهورية هو من مقتضيات "الأمن القومي المصري"، وذهب أبعد من ذلك عندما أكد أن هذا الترشح هو حتمية تاريخية لا يمكن لرجل من المؤسسة العسكرية أن يعطيها ظهره. وبناء عليه فقد ناشد المذكور كافة المرشحين الآخرين أن يراجعوا مواقفهم بناء على هذا الظرف التاريخي الحتمي وهذه الاعتبارات التي تمس الأمن القومي للبلاد! وعلى نفس النغمة الانتهازية المبتذلة طالب مستشار يصف نفسه "للغرابة الشديدة" بالخبير في شؤون حقوق الإنسان، بسرعة الحسم في محاكمة الرئيس "محمد مرسي"، عبر تحويل قضية التخابر المتهم فيها من القضاء العادي إلى القضاء العسكري لسرعة الفصل فيها نظرا لكون الطريقة التقليدية في التقاضي لا تؤتي ثمارها وتعكس خطورة على "الأمن القومي المصري"! بل ووصل الأمر بالبعض (غرفة صناعة الإعلام المرئي والمسموع) إلى اعتبار التقرير الذي نشرته "شركة إبسوس" حول نسب مشاهدة القنوات الفضائية في مصر، والذي أعطي قناة "الجزيرة مباشر مصر" المرتبة الثانية في نسب المشاهدة، بأنه يمثل تهديدا "للأمن القومي المصري"، وبطريقة عكسية فهم من هذا الموقف العنتري أن متابعة الفضائيات المؤيدة لانقلاب الثالث من يوليو أمر ضروري لحماية الأمن القومي.بل إن تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية مثل منظمة هيومان رايتس وتش، والتي دأبت في الفترة الأخيرة على إدانة حالة حقوق الإنسان في مصر، ورصدت عددا من الحالات التي تم فيها استغلال المتسللين الأفارقة إلى إسرائيل وتعرضهم للتعذيب من قبل المهربين، أصبحت توصف هي الأخرى بأنها تهدد الأمن القومي المصري.وفي المقابل توصف أي أعمال يقوم بها النظام القائم بأنها تدعم الأمن القومي المصري، فالقبضة الأمنية ضرورية للحفاظ على الأمن القومي، والاعتقال العشوائي للمعارضين هو جوهر الأمن القومي، وإغلاق المعابر مع قطاع غزة لا غنى عنه للأمن القومي، واستمرار الحكومة الفاشلة ضروري من أجل عدم المساس بالأمن القومي، ولا ننسى دول الخليج العربي (التي تمول الانقلاب فقط) فهذه يمثل أمنها الوجه الآخر من عملة اسمها "الأمن القومي المصري".نخلص مما سبق إلى أن الأمن القومي أصبح مرادفا لأمن الانقلاب، فقد تقلص الوطن ليصبح بحجم نظام الثالث من يوليو، فكل ما ليس على هوى الانقلاب وقادته أصبح تهديدا للأمن القومي، وكل ما يدعم الانقلاب ويبث فيه الروح هو في صالح الأمن القومي. ولكن هل يعي الانقلابيون أن الوطن أكبر منهم، وأن أمنه لا يتوقف على بقائهم، بل إن استمرار وجودهم هو اخطر ما يهدد أمن البلاد، سواء من ناحية سلامتها الإقليمية أو من ناحية تماسكها الاجتماعي وتكاملها الداخلي.