10 نوفمبر 2025

تسجيل

الحكمة بأثر رجعي

20 فبراير 2013

لا يكاد يختلف اثنان على أن أداء الطبقة الحاكمة في مصر يعاني من سلبيات واضحة، خصوصا فيما يتعلق بآلية صنع واتخاذ القرارات، ولكن رغم ذلك تفرغ عدد من المؤيدين المتحمسين ليس فقط لدعم هذا الأداء ولكن لسرد مميزاته واستخلاص الحكم والدروس منه، والتي هي في معظمها حكم ودروس ذات أثر رجعي، بمعنى أنها لم تكن واضحة عند صنع واتخاذ القرارات، وإنما تبدت فجأة بعد أن مرت الأمور على خير! فمؤخرا تداول الكثير من شباب جماعة الإخوان تقييما لما اعتبروه أنه إنجازات المرحلة الماضية، ووفقا لهذا التقييم حصلت الرئاسة على العلامة الكاملة في كل الأزمات التي واجهتها، حتى فيما بدا أنه تعثر أو بطء، وصل إلى حد السلبية في كثير من الأحيان. فوفقا لهذا التقييم اعتبر عدم قيام الرئاسة بأى فعل في مواجهة الكثير من الخروقات التي حدثت مؤخرا للأمن على أنه إنجاز حقيقي. كما اعتبر التراجع عن القرارات المختلفة حكمة بالغة ودهاء لا يصل إليه أفهام المعارضين. فالموقف السلبي من الانتهاكات التي تمت عند قصر الاتحادية عكس وفقا لوجهة النظر هذه حكمة الرئاسة التي أدركت المغزى من وراء هذه الانتهاكات، وهو محاولة استدراجها إلى رد فعل عنيف يحسب عليها وقد يؤدى إلى استدعاء الجيش أو تأجيل الانتخابات، وعليه لم تقم بأي رد فعل، حتى بعد أن تم تصعيد المواجهة لدرجة حصار القصر، وإلقاء المولوتوف بداخله. الشيء نفسه بخصوص قيام الرئاسة بإصدار الإعلان الدستوري المعيب والذي تم التراجع عنه لاحقاً، فالتقييمات المتفائلة تعتبر أن إصدار الإعلان وإلغاءه قد عكس حكمة بالغة، فعندما أصدرت الرئاسة هذا الإعلان الدستوري كانت تعلم أن الإعلام سيثور ضده وأن النخبة ستعارضه، ولكن هذا كان مقصودا ومدبرا، كما أن التراجع عن الإعلان لاحقا كان أيضا مقصودا ومدبرا، حيث ألغى الإعلان ولكن من دون أن تلغي آثاره، فكانت النتيجة أن النائب العام تغيّر، والتأسيسية أكملت عملها، وصدر الدستور. أما التأخر في تطهير المؤسسات الأمنية فله هو الآخر حكمة عميقة، وهو التغلب على مشكلة ضعف ولاء هذه المؤسسات للرئاسة، خاصة أن إعادة هيكلتها سيأخذ وقت. وحتى القرارات التي لم تنتج آثارها المباشرة، مثل قانون الطوارئ الذي فرض على مدن القناة ولم يلتزم به أحد من المواطنين تقريبا يتم تسويقه على أنه تضمن حكمة خفية، تمثلت في تحقيق آثاره غير المباشرة، وهى استعادة الأمن. فبغض النظر عن التزام المواطنين أو عدم التزامهم بالقرار فإن العبرة أن الأمن قد تحقق، وانتهى العنف بينهم. هذه الطريقة في التحليل هي نفس الطريقة التي كان أعوان مبارك يبررون بها أفعاله أو بالأحرى سلبياته، ففي عهد النظام السابق، كانت الحكمة تضفى بأثر رجعى على كافة القرارات الخاطئة، بحجة أنها لو لم تتخذ لكانت العواقب أوخم، والنتائج أخطر. فقد امتنع عن مساعدة أهل غزة لكي يفوت الفرصة على إسرائيل، وامتنع عن اتخاذ نائب حتى لا يفتح الباب أمام صراعات سياسية، ولم يبعد ابنه عن المناصب الكبرى لكي يبقى المعارضين في حيرة وتخبط، ولم يحرص على اتخاذ خطوات حقيقية في موضوع العدالة الاجتماعية حتى لا ينقلب عليه رجال الأعمال، ولم يضبط أداء الأمن وترك له الحبل على الغارب، لكي يحفظ الاستقرار الداخلي. وهكذا فإن الحكمة المؤجلة، أو الحكمة بأثر رجعي، تصلح دوما كتفسير لكل ما لا يمكن تفسيره، وكأن قدر السياسة المصرية أن يظل المعنى فيها في بطن الشاعر أو بالأحرى في بطن الحاكم، فمن خلالها تصبح كل قراراته منطوية على حكمة كامنة، حكمة لا تظهر إلا بعد أن تظهر ردود الأفعال ويتبين أن الخسائر أمكن استيعابها، فيتم تصوير الأمر على أنه كان مكسبا مخفيا عن عقول الناس. المشكلة الكامنة في هذه الطريقة في التفسير أنها تتغاضي عما قد تحتويه القرارات الرئاسية من مشاكل تتعلق بطريقة صنعها واتخاذها (لدرجة أن ترتب عليها استقالة معظم مستشاري الرئيس من مناصبهم). كما لا يتم النظر إلى أن هذه القرارات قد أفرزت أيضا العديد من العواقب السلبية، فقرار تعيين نائبا عاما جديدا على سبيل المثال جاء على نفس أسلوب النظام السابق، الأمر الذي جعل شبهة محاباة الرئيس عالقة به كما كانت عالقة بمن سبقه، كما أن قرار تحصين الجمعية التأسيسية من الحل تغافل حقيقة أن العديد من أعضائها شاركوا فقط في جلسات التصويت من دون أن تتح لهم أي فرصة لمناقشة مواد الدستور بعد أن تم تصعيدهم مكان الأعضاء المنسحبين، أما الموقف الخاص بالامتناع عن فك حصار قصر الاتحادية بالحسم اللازم فإنه كما تضمن تفويت الفرصة على دعاة الفوضى، فلا يخفى الآثار السلبية التي صاحبته والتي ليس أقلها تآكل هيبة مؤسسة الرئاسة في أعين الكثيرين. أما أخطر ما في مثل هذا النمط من التقييم، أو بالأحرى التبرير، أنه لا يترك أي مساحة للنقد البناء، فطالما أن ظاهر الأفعال غير بواطنها، وطالما أن ما يتاح من معلومات لا يكفي دوما لكي يصدر الناس أحكاماً على ما يصدر من قرارات، فلن يصبح بمقدور أحد أن ينتقد أي قرار، خاصة أن ما قد يراه الناس بأعينهم قرارا متسرعاً أو خاطئاً لابد وأن تثبت الأيام حكمته المكنونة. فلا يصبح أمام الناس في هذه الحالة إلا تجرع غيظهم، واحتمال ما يرونه غير محتمل، فهناك دائما مغزى خفي يدق عن فهم الذكي، ولكنه للأسف لا ينكشف إلا بأثر رجعي.