10 نوفمبر 2025
تسجيلفي ملف العلاقات الراهنة بين الإسلام والغرب لا نجد فقط مواقف الدول الغربية من الربيع العربي أو تعامل الحكومات الغربية مع الجاليات المسلمة في ربوعها أو التهديدات الحالية بإعادة القاعدة للمواجهة مع الغرب بل يجب أن نقرأ ورقات ملف آخر شديد الحساسية ومهمل منذ سنوات طوال ونسيه الغربيون والمسلمون وهو يعود اليوم للواجهة الدبلوماسية والإعلامية وأقصد بذلك ملف قبول الاتحاد الأوروبي لعضوية الجمهورية التركية فيه وهو ملف جاءت الحكومة الفرنسية الاشتراكية وجاء رئيسها فرنسوا هولند ينفضون عنه غبار عقود من الجدل العقيم وتوظيفه في ملعب التلاعب الانتخابي الأوروبي الداخلي وغبار الاستغلال السياسي الذي شوه العلاقات القديمة بين الشرق والغرب. اليوم يحرك الرئيس الفرنسي هذا الملف ويعلن أنه لا يعارض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وهو بهذا الموقف يسجل قطيعة مع موقف سلفه الرئيس ساركوزي الذي جعل من معارضته لدخول تركيا للاتحاد قاعدة أساسية من قواعد سياسته الخارجية أثناء حملته الانتخابية الأولى سنة 2007 والثانية سنة 2012 حين قرر استعمال تلك المعارضة ليرضي الحساسيات اليمينية المتطرفة بل العنصرية داخل المجتمع الفرنسي وبلغ الأمر بالمرشح اليميني ساركوزي أن قال إنه يقف سدا منيعا لحماية الغرب وما سماه القيم المسيحية اليهودية التي تأسس عليها الاتحاد الأوروبي! وتعلل بأن أوروبا لا ترغب في أن تكون لها حدود مع العراق وإيران وبأن تركيا شعب مسلم ولا ينتمي إلى "ثقافتنا" حسب تعبيره! ولكن العديد من السياسيين الفرنسيين اليساريين البارزين كتبوا كتبا لا مجرد مقالات للرد على هذه السياسة ومنهم رئيس الحكومة الأسبق السيد ميشال روكار الذي أصدر كتابا منذ سنتين بعنوان (نعم لتركيا) ومنهم وزير الدفاع الفرنسي الأسبق السيد جون بيار شوفينمون الذي نظم عديد الندوات الدولية ليشرح موقفه من اتحاد أوروبي منفتح على شرق المتوسط أي تركيا بالتحديد. يجب أن لا ننسى بأن المعطى الجديد الذي عجل بموقف الرئيس هولند في هذا الشأن هو إنقاذ صورة فرنسا من عداء المسلمين لها بعد تدخلها العسكري في مالي وكذلك إشارة السيد رجب طيب أردوغان بأن تركيا تدرس مشروع طلب عضويتها في الاتحاد المشرقي الاقتصادي الذي تقوده جمهورية روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية وهو يحمل اسم (منظمة تعاون شانغهاي) وهو اتحاد بصدد تشكيل جبهة مصالح تجارية ونفطية وغازية ومالية لدول قوية تتعارض أستراتيجياتها مع استراتيجيات الغرب بجناحيه: الأمريكي والأوروبي وبتوابعه اليابانية وجنوب شرقي أسيا. فانضمام تركيا بديناميكيتها الصناعية والتصديرية وبوزنها السياسي والحضاري الإسلامي لهذا القطب المشرقي سوف يرجح كفة العمالقة التقليديين: روسيا والصين على حساب القطب الغربي بل سيفتح باب الدول المسلمة جميعا على خيارات أخرى مختلفة تدشن وضعا غير مسبوق في مجال العلاقات الدولية وموازين الحرب الباردة في طبعتها الجديدة المنقحة مما سينتج عنه لا محالة تغيير عميق في صلب النظام العالمي القديم والجائر والمؤسس على غلبة الغرب واحتلاله لعديد مناطق النفوذ في العالم. نلاحظ بأن وزير الخارجية التركي السيد أحمد داود أوغلو رحب يوم 12 فبراير الجاري بالمبادرة الفرنسية واصفا إياها بالخطوة الحكيمة بعد الخمسين عاما التي قضتها أنقرة وهي تحاول الانضمام للاتحاد الأوروبي دون جدوى. اليوم تبدأ مفاوضات صعبة ومعقدة وضعت لها الدول الأوروبية شروطا مجحفة تتعلق بالقوانين الجمركية والمنظومة السياسية وحقوق الإنسان والتعامل مع الأكراد حيث يطلب الاتحاد من تركيا أن تلتزم بها حتى يتم تواصل المفاوضات من أجل قبولها. ونذكر أن طيب الذكر رحمه الله مؤسس الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا نجم الدين أربكان سبق أن أوصد هذا الباب بعد طول صبر قائلا:" إني أفضل ألف مرة أن تكون تركيا في مقدمة الدول الإسلامية على أن تكون ذيلا للاتحاد الأوروبي". وبالفعل أخذت أنقرة في عهد تلميذيه النجيبين عبد الله غول ورجب طيب أردوغان منعرجا جديدا وجريئا يتمثل في صرف النظر عن عضوية الاتحاد الأوروبي والالتفات القوي للعالم الإسلامي حيث تحولت تركيا إلى عنصر توازن وحضور إستراتيجي في كل ملفات الشرق الأوسط الساخنة ومنها ملف القضية الفلسطينية وما تبعها من قضية سفينة السلام وكسر الحصار المعروفة وعملية القرصنة والعدوان الإسرائيلية التي استشهد فيها تسعة مواطنين أتراك ثم صدام تركيا الدبلوماسي مع إسرائيل ومواقف أردغان الشهيرة أمام الغطرسة الإسرائيلية ومنها اليوم قضية الشعب السوري. يوم الإثنين الماضي اجتمع رجب طيب أردوغان بسفراء دول الاتحاد الأوروبي في أنقرة وتوجه باللوم والعتاب لمواقف دولهم من مطلب عضوية تركيا منذ نصف قرن مذكرا إياهم بالسند التاريخي الذي قدمته تركيا لحلف شمال الأطلسي وبالتالي لدعم قيم الحرية والديمقراطية في العالم. كما أشار إلى أهمية تركيا في السوق التجارية الإقليمية والدولية بحجم مبادلات يتضاعف سنويا ويفتح أسواقا مستهلكة لإنتاجها ويزيد من مزاحمتها وقدرتها التنافسية مع الدول الأوروبية تحديدا في البلدان العربية والإفريقية. نحن اليوم أمام تحولات مهمة في طبيعة العلاقات الدولية بعد التغييرات العميقة التي شهدتها بلدان المغرب والمشرق خلال سنة 2011 ولعل ما سيحدث في تركيا سينعكس إيجابا على العلاقات المتأزمة بين الإسلام والغرب وربما فتح طريقا للسلام والوفاق.