07 نوفمبر 2025

تسجيل

إيران وتغيير نهجها في مواجهة الأمريكيين

19 ديسمبر 2011

من البديهي، في نظر كثيرين، أن تستغل إيران الفراغ الذي يخلفه الأمريكيون في العراق لتعزز نفوذها هناك. بل يقولون إن هذا الفراغ سيكون أمنياً، وأن العراق سيستخدم إيرانياً في أدوار متعددة بدءاً بحلحلة الأزمة في سوريا، وانتهاء بمضاعفة التدخلات في دول الخليج. قد يبدو هذا التحليل واقعياً، إذ لا يعقل أن تجد طهران ساحة خالية في جوارها من دون أن تحاول تجنيدها في مد نفوذها، ثم انها لم تنتظر رحيل الأمريكيين كي تبادر إلى تطوير موطئ قدم لها في العراق، بل استغلت وجود الاحتلال الأمريكي أيما استغلال، إذ كانت الجهة الوحيدة المستفيدة منه. دخلت إيران إلى قلب العراق تحت مرأى ومسمع من الأمريكيين، الذين حاولوا جهدهم الحد من تغلغلها، إلا أنها لم تدخل على دبابات أو آليات عسكرية وإنما عبر المجموعات العراقية التي كانت لاجئة لديها لسنين طويلة، كما دخلت من باب التجارة والسياحة الدينية لزيارة الأضرحة، وكانت حدودها المفتوحة بمثابة الشرايين الأولى التي ترفد العراقيين في الفترة المباشرة بعد سقوط النظام السابق. كثيراً ما ردد الجنرالات الأمريكيون أن ثمة جنودا يقتلون بأسلحة مصدرها إيران، لكن قليلاً ما ألحوا على إبراز هذه المعلومات، كما أن واشنطن، بل حتى الكونجرس، لم يجد موجباً للتوقف عند هذا المعطى رغم أن الجنرال ديفيد بيترايوس (قائد القوات الأمريكية سابقاً في العراق ومدير الـ "سي.آي.إيه" حاليا)، أدلى بها شخصيا، إذ أن أخذه في الاعتبار يستوجب الرد، لكن الإدارتين الأمريكيتين المتعاقبتين وضعتا هذه الوقائع في إطار "الاضرار الجانبية" للحرب على العراق، لئلاً تضطرا إلى التعامل معها على أنها اعتداء مرشح لأن يفتح حرباً أخرى في المنطقة. سلطت الأضواء خلال الأسبوع الماضي على الانسحاب الأمريكي من العراق. ولم يكن صعباً استشفاف المرارة في خطابات باراك أوباما، ولا في تصريحات وزيره للدفاع أو سائر العسكريين، فلا انتصار هنا للطنطنة به، وإنما خسارة يحسن الحد من جسامتها، لذلك لا يبقى للمعنيين سوى التغني بما أمكن إنجازه لبناء نظام جديد واستعادة للدولة وتطوير للقوى الأمنية في العراق، وبالتالي للقول إن المهمة كانت تستحق هذه المشقة في نهاية المطاف، ومع إنزال العلم الأمريكي عن آخر القواعد العسكرية، انتقلت الأضواء إلى إيران، إذ تعتبر انها الطرف الخارجي الآخر الموجود على الساحة، ما يطرح مجموعة تساؤلات تتعلق بالمرحلة المقبلة، ماذا ستفعل إيران بهذا النفوذ، وما موقف حكومة بغداد منه، وكيف سيتمظهر في السياسة الخارجية العراقية، وهل يترجم بتوسل العراق قناة جديدة للتدخل في دول الجوار؟ تعززت هذه التساؤلات مع زيارة وزير الاستخبارات الإيراني حيدر مصلحي للسعودية ولقائه مع ولي العهد الأمير نايف بن عبدالعزيز. طبعاً، هناك ملفات ثنائية تتطلب المراجعة وتعتبر طهران أن بعضها الكثير قائم على "سوء الفهم"، سواء تعلق الأمر بأحداث البحرين، أو بالاتهامات الأمريكية لإيران بشأن مؤامرة لاغتيال السفير السعودي ونسف السفارة السعودية في واشنطن، أو حتى باحداث تقع بين الحين والآخر في المنطقة الشرقية السعودية، ثم أن هناك أيضاً اتهامات خليجية، بل تحذيرات متفاوتة اللهجة تكررت أخيراً داعية إيران إلى الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، لا شك أن الانسحاب الأمريكي والوضع الذي سينشأ في اليوم التالي له هو ما استدعى هذا التشاور السعودي-الإيراني الذي كان في الأعوام الأخيرة من قبيل المستحيلات، وقد يضاف أيضاً ما استجد في الأزمة السعودية التي بلغت مرحلة خطيرة من دون أي مؤشرات إلى احتمال حصول حسم داخلي لمصلحة أي طرف، أو إلى تدخل خارجي قادر على هذا الحسم. لو كان لإيران أن تختار لفضلت بقاء القوات الأمريكية في العراق، فرغم أنها تعتبر الانسحاب نتيجة لـ"الحرب" التي شنتها وسوريا ضد الأمريكيين، أولاً لإحباط مخطوطات كانت واشنطن وضعتها لتكون إحدى الدولتين الهدف التالي للغزو بغية إسقاط النظام وتغييره، وثانيا لمشاغلة الأمريكيين وإجبارهم على التفاهم مع إيران بشأن مصالحها في العراق والمنطقة، ومع أن الجانبين التقيا في اجتماعات حرصا على إبراز الدور العراقي في تنظيمها، إلا أن الأمريكيين قصروا البحث فيها على حل إشكالات طارئة، معظمها أمني، تعرقل إدارتهم شؤون العراق، ويعزى النشاط المسلح المنسوب إلى فرع تنظيم القاعدة العراقي، ومجموعات المقاومة السنية إلى الدعم الذي كانت إيران وسوريا توفرانه. لكن المأزق السوري قد يؤدي إلى تقليص الاعتماد على هذه المجموعات، ثم ان الانسحاب الأمريكي سيجعل من أي تدخل ايراني مجرد عبث أمني لا يلبي لطهران أي مصلحة. لعل أخطر ما يعنيه انتهاء المواجهة الأمريكية-الإيرانية المباشرة في العراق، أن احتمالات المواجهة العربية-الإيرانية ستتضاعف وتصبح مباشرة بدورها، مع ما يمكن أن تحمله من صراعات ذات طابع طائفي، لكن الانسحاب الأمريكي في حد ذاته سيطرح على إيران استحقاق تغيير تكتيكاتها، صحيح أن الساحة العراقية مفتوحة ومتاحة لها، إلا أنها قد تكون أيضا بمثابة فخ لها، فمن جهة ستكون حكومة بغداد تحت الأنظار، داخلياً وخارجياً، لتأكيد احترامها سيادة البلاد واستقلاليتها، وكذلك لإثبات كونها حكومة لجميع العراقيين على اختلاف انتماءاتهم، وأخيراً لإبعاد شبح الحروب الداخلية التي تنذر بها المطالبات المتكاثرة لإنشاء أقاليم ذات استقلالية تفعيلاً لـ"الفدرلة" التي يجيزها الدستور، ومن جهة أخرى سيفتح تحرير الأمريكيين من "كابوس العراق" آفاقاً أخرى للتعامل مع ما يسمى الخطر الإيراني. يدرك الإيرانيون أن الأمريكيين يغادرون العراق لكنهم باقون في قواعدهم المنتشرة في الخليج، كما في مياهه، ولعلهم تذكروا ما تردد دائماً من أن الانسحاب الأمريكي من العراق سيبقى الشرط الضروري قبل أي تفكير في شن حرب على إيران، إذا كان لهذه الحرب أن تقع، اما وقد أنجز الانسحاب فلابد أنه يدفع الإيرانيين إلى مراجعة حساباتهم وإعادة النظر في خططهم للمواجهة مع الأمريكيين، إذ كانت انحصرت منذ عام 2003 بالساحة العراقية.