06 نوفمبر 2025
تسجيلأنقل إليكم تجربة طبيب عربي أكدتها المشاهدة، جاء للعمل بكل جدٍّ وتفانٍ، ثم اكتشف بعد فترة، ومن خلال أقرانه الذين سبقوه، أن هناك فجوة بين المواطن وبين تأثيره كوجود متحقق يدخل من خلالها الشر الأخلاقي. لا أُعمم هنا بقدر ما أحاول رصد ظاهرة ينبغي تلافيها لضررها على الحيز العام كمجال للتعايش في مجتمع يمر بمرحلة انتقالية سريعة الخطى طموحة الأبعاد: «أعترف أنني أضعت كثيرا من سنواتي في هذا البلد، لم أتقدم فيه علميا، ولم أستفد من خيراته اجتماعيا، كنت أزاول عملي الروتيني اليومي، أعالج المرضى وأصرف لهم الدواء، وفي إجازاتي آخذ مستحقاتي في إجازة سنوية أعود بعدها لمزاولة عملي الروتيني كطبيب، كنت مرتاح البال، مستريح الضمير، حتى لفت نظري بعض أقراني إلى ملاحظة هامة شغلتني كثيرا وهي كما أشاروا «بدك تعرف الناس في هالبلد وتقدم خدماتك طبقا لمعرفتك لمكانتهم، إذا بدك تتطور». لم أدرك المقصد من هذا، ظهرت على أقراني مظاهر السمنة، ولم يعودوا يهتمون بتطوير أنفسهم طبيا، بقدر ما كانوا يمارسون حياتهم اجتماعيا، ومع ذلك تقدموا وظيفيا، وأصبحوا استشاريين وأنا ما أزال «ممارس عام»، حاولت أن أستفسر أكثر، فهمت أنه لا بد لي من تقديم الجانب الاجتماعي على الجانب المهني في ممارستي، من خلال إدراكي للتراتبية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وإعطائها الأولوية، ليس بين مواطن وغير مواطن، وإنما بين فئة المواطنين أنفسهم، وذكروا لي أمثلة سابقة لنجاح هذا التوجه الاجتماعي الذي قالوا إن المجتمع يفرضه عليهم. فهناك من أصبح طبيبا خاصا لفئة دون غيرها في المستشفى الحكومي العام، ومواعيده فقط لعدد خاص جدا من المرضى، وآخر يطلب اسم المريض أولاً لكي يسمح له بمقابلته، أو يحوله إلى طبيب آخر، وثالث حصل على الجنسية وافتتح عيادته الخاصة بعد هذا الاختراق الاجتماعي، على حساب التفريط العلمي» انتهى كلام الطبيب هنا. بالنسبة لي أنا، هناك العديد من المرضى حدثوني عن نماذج طبية رائعة، أخلصوا لمهنتهم الإنسانية، بعيدا عن أي مطمع اجتماعي آخر، ومع ذلك تبقى الفرصة متاحة للقادم الجديد من المهنيين أو الأطباء أو غيرهم، في القدوم إلى هذا البلد بعقلية الفرصة الاجتماعية، طالما ظلت هذه الفجوة بين المواطن، كوجود وتأثير، موجودة ويكتشفها المقيم بعد فترة من استقراره وملاحظته لحركة الوسط الاجتماعي. إن فكرة التمييز بين المواطنين أنفسهم التي استولت على ذهنية كثير من الأطباء، وهم رسل الرحمة، تدل بوضوح على بشاعة الواقع المادي الذي تكرسه الفرصة بعيدا عن الأخلاق كإتيقيا وأساس ومجال خصب للشر الأخلاقي الذي لا ينتج عن طبيعة الإنسان بقدر ما يكون نتيجة لظروفه وضعف وازع الضمير لديه. خطيئة كبرى أن يُكرس مثل هذا التوجه لما فيه من سوء، ليس فقط بحق المواطن الضعيف، ولكن بحق الوافد أيضاً عندما يجد نفسه في مجتمع يدفعه إلى الصراع بين ضميره وفرصته. [email protected]