06 نوفمبر 2025
تسجيلسألني عديد الأصدقاء في المجالس منذ عشرة أعوام: ما رأيك في الحكم بالبراءة الصادر في مصر عن محكمة الاستئناف لفائدة الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك؟ وما رأيك في عودة رموز الدولة المطاح بها في أغلب بلدان الربيع؟ وهل أخطأ القضاة أم أصابوا وبمعنى أصح هل عدلوا في حكمهم باستقلالية ونزاهة أم ظلموا الشعب وخانوا الثورة وانحازوا للنظام العربي الجديد؟ ثم وفي سياق الانشغال بنفس المحاور السياسية ينتقل أصدقائي إلى ما يجري في تونس بالنظر إلى تشابه الحالتين منذ إسقاط الرئيسين الأسبقين بن علي ومبارك وما حدث بعد ذلك من انفلات أمني وتخبط سياسي وأزمة اقتصادية وهبوط عام في الممارسات الأخلاقية وانحطاط مزر في الخطاب فيتساءلون بنفس التطلع للمعرفة: كيف يعود بعض رموز الفساد والاستبداد في بلدان الربيع إلى صدارة الترشحات التشريعية وحتى الرئاسية بعد أن قامت على منظومتهم ثورات عارمة (حالة علاء مبارك وسيف الإسلام القذافي وغيرهما؟) ويضيف بعض السائلين: أين القضاء؟ أين قانون العزل؟ أين العدالة الانتقالية والتي لم تنتقل! ثم أين ضمائر هؤلاء المتسللين لاستعادة سلطة لم يسخروها لخدمة المواطنين والوطن فلفظهم الناس لفظ النوى؟ وأين وعي الناس بدقة اللحظة فحصل ما حصل من نتائج الاقتراع حيث رجع للفضاء السياسي بعض رجال ونساء أسهموا في هتك ستر الدولة وإيذاء الشعب وضحكوا على ذقوننا لمدة 23 سنة من النظام المقبور وهي ليست فقط جرأة في الباطل بل استبلاه للشعوب! والجواب على هذه التساؤلات المشروعة جاءنا في الواقع من صناديق الاقتراع فمرغت النسب الصفرية التي تحصل عليها هؤلاء أنوفهم في الوحل والخزي وعادوا إلى بيوتهم خاسرين خاسئين يجرون عار صفر فاصل إلى الأبد بل نالهم انتقام زوجاتهم الخائبات بعد أن وعدوهن أن يجعلوا منهن السيدة الأولى! الإجابة القانونية المتميزة على أسئلة أصدقائي عما يجري في مصر وفي تونس وفي جميع بلدان الربيع لم يأت مني بل أنا استفدت شخصيا غاية الاستفادة من تحليل زميل كبير وفقيه قانون محترم هو الأستاذ مستشار مجلس الدولة المصري د. طارق البشري رحمه الله (توفي عام 2021) فقد كان نصيرا للحق والهوية والقانون وأنا أذكر أحاديثي المطولة معه في عديد المؤتمرات والندوات العربية التي ندعى إليها معا وكنت أغتنم فرصة لقاءاتي به لأستزيد من علمه ومن علم الأستاذ أحمد كمال أبو المجد والرجلان من الأبناء العلميين لأستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق السنهوري. وحين يتكلم المستشار طارق البشري يذكرني برواد الفكر الدستوري الأولين. ونعود إلى الموضوع الذي نتداوله اليوم حول مسؤولية رموز الأنظمة البائدة وهل هي جزائية جنائية أم هي سياسية أخلاقية؟ يتحدث المستشار طارق البشري بلسان صدق حين يؤكد أن القضاة لم يخطئوا بل أصدروا أحكاما تقتضيها بنود المجلة الجنائية التي أمامهم وتقتضيها ضمائرهم لأن تحديد المسؤولية الشخصية مثلا في مقتل المتظاهرين صعب بل مستحيل لأنه ما من أحد يمكنه إثبات البينة على أن الرئيس مبارك أو حبيب العادلي أصدرا تعليمات مكتوبة واضحة موثقة بقتل المتظاهرين أو أن هذا أو ذاك من رجال الأمن لم يكن في حالة دفاع غريزي وبالتالي شرعي عن حياته حين هاجمه جمع من المتظاهرين مسلحين بأي شيء يهددون حياته. والاستنتاج إذن هو أن استعمال أداة القضاء لتصفية تركة الفساد والاستبداد في مصر كما في تونس ما هو سوى إنقاذ الطغاة من الإدانة السياسية والأخلاقية ووضعهم أمام قضاة في أقفاص المحاكم والتي في النهاية وبكل نزاهة وشفافية ستبرئهم من التهم المنسوبة إليهم وإلى أولادهم وأصهارهم ووزرائهم وكذلك التهم المتعلقة بالفساد والرشاوى فإنه يصعب إثباتها عليهم لأن منظومة الفساد المالي هي منظومة مافيوزية (نسبة للمافيا) كانت وربما لا تزال متشابكة معقدة ومتقاطعة مع صفقات حكومية رسمية ووثائقها سليمة (مية لمية) والحجج القانونية موجودة بترويسات الوزارات وسلامة النوايا (صحتها زي البمب على رأي إخوتنا المصريين) أي أن لصوص المليارات في الحقيقة لا يلقون أبدا مصير لصوص 12 بيضة من سوبر ماركت! كما أن قاتل شخص يحكم بالإعدام بينما قاتل 2500 بريئا من غزة مثل نتنياهو يعتبر مدافعا عن أمن إسرائيل! هكذا منطق العالم المقلوب والجائر! يقول أستاذنا د. طارق البشري: "إن وضع هذه القضيّة أمام القضاء، يعني حشرها في إطار التفاصيل الجزئية، والوقائع المشكوك فيها، والفرعيات التي تميعها، والتي هدفها الخفي أن تصرف النظر عن الجرائم السياسيّة الحقيقية، التي ارتكبتها الأنظمة التي أطيح بها في العالم العربي. "قضت هذه الأنظمة على استقلال دولها والإرادة الوطنيّة المستقلّة للدولة، في مواجهة قوى الاستكبار العالمي، وحطّمت الكثير من مجالات النشاط الاقتصادي من صناعات وغيرها من المجالات، وفكّكت هيئات كثيرة في الدولة والمجتمع المدني". ويواصل د. البشري تحليله فيضيف:" كتبت ذلك مراراً وأثرته في المرحلة الأخيرة من حكم مبارك ومن أجل هذه الانحرافات قامت الثورة وهذا ما كان يجب أن يُحاسب عليه مبارك. كان المطلوب في ذلك الوقت، تشكيل هيئة تحاسبه وتحاسب أعوانه على ما قاموا به ضد المصلحة الوطنية والشعبيّة، وتبرّر في الوقت ذاته قيام الثورة". كان هذا تشخيص د. البشري للحالة المصرية التي تم فيها تهريب مبارك وأعوانه من المحاسبة الحقيقية التي تتلاءم مع الأضرار الحاصلة للدولة وللمواطنين جراءها وما تهريبه مع معاونيه إلى ساحة القضاء سوى حيلة لإنقاذهم من تحمل تبعات أخطائهم لأن السياسيين والعسكريين الذين تسلموا السلطة بعدهم يدركون تماما أن القضاة سوف يبرئونهم دون أن يخالفوا نص القانون. وفي تونس وقع تقريبا نفس التحيل من الدولة العميقة ذات الأذرع الطويلة وذات المصالح المريبة حيث إنه في خضم ثورة الشباب وفوضى الانفلات الأمني تم إلقاء القبض على بعض الرموز القديمة المعروفة لمدة زمن طال أو قصر إلى أن برأهم القضاء وهو مطمئن الضمير عوض المحاكمة التي يستحقونها وهي المحاكمة السياسية التي ربما ليس فيها سجون أو غرامات لكنها تضع الأمور في نصابها وتعطي الضحايا وهم بعشرات الآلاف بعضا من حقوقهم المغتصبة بعد أن استشهد أولادهم أو سجنوا أو شردوا أو عذبوا أو طلقت زوجاتهم منهم أو لوحقوا مثلي بإنتربول لمدة 14 سنة. وهذا الذي حصل في تونس كما حصل في عديد دول الربيع فلا تتعجبوا إذن من إعادة إنتاج الاستبداد بإخراج جديد من خلال تغليف منظومة الفساد والقمع بالسيلوفان (ورق شفاف للف والتزويق) بعد تدجين حركة النهضة بتخليها عن ثوابتها وفقدان مراجعها وكثير من قواعدها وصدق د. البشري عند وصف الحالة المصرية (وشبيهتها التونسية) بأنها ربما تكرس عودة الدولة القديمة لأن الذي وقع هو إدانة للرموز وليس للسياسات وأحكام على أشخاص أبعدوا لكن مع استمرار القهر وعودة أشباح الاستعباد والتلويح بالعصا الغليظة. فعسى الله يفرج كرب العرب إنه على كل شيء قدير وهو أرحم الراحمين.