12 نوفمبر 2025
تسجيلفي مشهد يغلب عليه خوف شديد، يقول سبحانه في سورة طه ( يوم يُنفخ في الصّور ونَحْشُر المجرمين يومئذٍ زُرقاً. يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً. نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إن لبثتم إلا يوماً ). الآية واضحة في الإشارة إلى الساعات الأولى للحشر من بعد النفخة الثانية لإسرافيل، وكيف هو حال المجرمين يومئذ، الذين تصير جلودهم زرقاء، ربما من شدة الهلع والخوف. ولاشك أن أجواء الخوف مسيطرة على العالمين يومئذ إلا من رحم الله، وكتب لهم الأمان. تتحدث الآيات الكريمة عن ذلك الموقف، وكيف أن المجرمين في ظل تلك الأجواء يبدأ بعضهم بالتحدث إلى بعض ولكن بشكل خافت يكاد يسمع بعضهم البعض. كم لبثتم، ويقصدون حياتهم في الدنيا ومدة بقائهم فيها، وقال مفسرون مدة حياتهم في البرزخ. المهم أن إجابتهم تدور حول عشرة أيام، لينطق بعدها أحكمهم أن المدة يوم واحد ! لندخل في صلب الموضوع أكثر فأكثر.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت آية (.. وما أدراك ما سقر. لا تبقي ولا تذر. لواحةٌ للبشر. عليها تسعة عشر) قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمعُ ابن أبي كبشة – ويقصد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم - يخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم، أي الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ قال: أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر. عشرة على ظهري وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين! فأنزل الله: (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة). الشاهد من كل هذه المقدمة الطويلة، أن الأمم غالباً تُبتلى في فترة من فترات أو دورات حياتها بقادة وزعماء غاية في الحماقة، يضاف عليها عناد مغلف بجهالة مركبة. والقرآن ما ذكر مثل هذه القصص إلا لتكون شواهد على أن الشعوب حين تضع جهالها سادة وزعماء وقادة، فلا يجب أن تصيح في كل واد، تشتكي إلى هذا وذاك. لماذا؟ لأن أولئك القادة الحمقى نتاج تجاهل تلك الشعوب عمن يصلح لها أو حرصها على منافع معينة تخشى زوالها، فلا تجد بسبب ذلك حرجاً في تمكين حمقى ومغفلين لإدارة شؤونها في فترة من فترات حياتها، فتكون العواقب بطبيعة الحال، غير سارة ولا محمودة. زعماء لكن حمقى أبوجهل حين ذكره القرآن دون الإشارة إلى اسمه، كان أنموذجاً لما نتحدث عنه. كان حجر عثرة - إن صح التعبير- أمام قبيلة عريقة مثل قريش، أن تواصل سيادتها على القبائل بدخولها الدين الجديد وقبوله. كان يقعد للإسلام والمسلمين كل مرصد. وفوق كل ذلك، كان بالمثل يترصد أي قرشي، لاسيما الزعماء الوجهاء، خشية أن يميل أحدهم إلى الإسلام، فكان سبباً في استمرار ترفع البعض عن الدين الجديد، حتى لقي هو ونفر من زعماء وصناديد قريش، سايروا أبا جهل في حماقته وجهالته، احتراماً لمكانته في مكة، فكانت عاقبتهم جميعاً القتل، ورمي جثثهم في قليب بدر، في مشهد نهائي ذليل لحياتهم، هو جزء مما سيجدونه بعد النفخ في الصور، وربما يكونون ضمن المتسائلين عن عدد أيام حياتهم الدنيا التي ختموها بسوء وبئس المصير. أبوجهل هو استمرار لنموذج فرعون الذي واجه موسى عليه السلام. فرعون نموذج بشري سابق لأبي جهل، كان غاية في العناد والجهالة والحماقة أيضاً. لم تنفعه قوته وأمواله ووزراؤه وخدمه وحشمه وكل الألوف المؤلفة من الجماهير المصفقة له، الذين استخف بهم حيناً من الدهر فأطاعوه، فكانت العاقبة، غرق في اليم، لتكون جثثهم الطرية طعاماً لوحوش البحر وكائناته، في مشهد مذل هو جزء مما سيجدونه من مشاهد أخرى أكثر ذلاً وألماً يوم الحشر. يأتي نموذج ثالث ضمن سلسلة الحمقى المطاعين من الزعماء، هو ما عُرف في التاريخ بالأحمق المطاع، أو عيينة بن حصن. حيث يحكي المؤرخون بعض قصصه التي كانت لافتة للنظر. فقد كان صاحب قرارات متسرعة دون كثير تدبر وتأمل، فكانت تأتي بنتائج غير محمودة، لا على نفسه ولا على قومه. كان إلى جانب حمقه، مستبداً في الرأي. مشكلة أخرى تضاف إلى الحماقة. لم يكن يسمع أو يشاور، بل يطيع هواه فقط وبالتالي كانت قراراته حمقاء ضارة مضرة وبالضرورة. من أبرز قراراته الحمقاء حين قرر الوقوف مع يهود خيبر يناصرهم ويعادي المسلمين، في وقت كانت تتعاظم قوة وشأن الدولة الإسلامية الوليدة، حيث الحكمة آنذاك كانت تقتضي احترام تعاظم تلك القوة الجديدة. لكن كيف لأحمق مطاع أن يدرك مثل تلك المتغيرات على الساحة السياسية بالمنطقة؟ وقد كان النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم - فاوضه على أن يكون محايداً في هذه المعـركة وله نصف اقتصاد خيبر، لكنه رفض رغم كل تلك الإغراءات !. بدأت معركة خيبر، وتهاوي القلاع والحصون اليهودية أمام المسلمين، ورأى عُيينة الأحمق بأم عينه كيفية انهيار خيبر، ومع ذلك لم يتراجع عن قراره، لافتقاره أبسط مبادئ السياسة والزعامة، والغريب أنه لم يقم أحد من جيشه، وكانوا يومئذ أكثر من أربعة آلاف مقاتل، بتقديم رأي آخر يعارض توجهات زعيمهم الأحمق المطاع، بل كانوا يتبعونه ويطيعونه إلى أن انتهى أمر يهود خيبر. ثم جاء عيينة بعد ذلك بقليل، ودون استحياء، إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وطلب أن يعطيه بعض غنائم الحرب حتى يكف عن معاداته !! نعم، بتلك الجرأة في الطلب، أثبت الأحمق المطاع أنه فعلاً رمز للحمق، وصدق الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – حين أطلق عليه وصف الأحمق المطاع. وقد كان من المنطقي ألا يحصل على شيء، لأنه فات وقت التفاوض، حيث طرده النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه، ليعيش بعد ذلك ومن معه في عالم الحمقى والمغفلين حيناً من الدهر. خلاصة الحديث حين يقرأ أحدنا مثل تلك القصص، فلا شك سيتبادر إلى ذهنه نماذج عجيبة شبيهة بالأحمق المطاع، أو أبي جهل أو حتى فرعون، يكونون على شكل رؤساء أو وزراء أو حتى مديرين ومستشارين.. قرارات حمقاء وتعليمات جوفاء، والناس من حولهم في شقاء وعناء.. ولقد ظهرت في أزمة الخليج الحالية، أعداد من أولئك المسؤولين الحمقى، الذين ستشقى أو ربما تشقى الآن بهم شعوبهم، ولاسيما حين تنجلي الغمة عن المنطقة ويتبين الحق من الباطل، ويتفكك معسكر الحصار الذي يقوم عليه رباعي متأزم منذ الخطوات الأولى لمؤامرة دنيئة لا يمكن نسيانها وتجاهلها. إن مشاكل كثير من المؤسسات الإدارية العربية، سواء كانت مؤسسات حكم أو وزارات أو حتى شركات تجارية وغيرها، تتلخص في أن القيادات أولاً، ومن ثم من هم أقل درجة وظيفية، لا تعترف بالخطأ حتى لو ثبت الأمر وتبين من هو المخطئ ! حيث يظل المخطئ يدافع عن نفسه والتنصل أو التبرير إلى آخر نَفسٍ أو طاقة يمتلكها، ويظل على تلك الشاكلة يجادل ويماطل، بل يظل متنقلاً في مواقع الدفاع من موقع التبرير إلى الجدال إلى المِراء، حتى ينتهي به الأمر الى العناد. فإن وصل إلى نقطة العناد، فإن عليه وعلى من معه السلام - كما تقول العامة - دون أن ندخل في كثير شروحات وتفصيلات هي أوضح من شمس الدوحة في رابعة نهار شهر أغسطس! ولكم في أزمات ومشكلات هذه الأمة، الكثير من الدروس والأمثلة لمن أراد الاستزادة.. والله كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [email protected]