12 نوفمبر 2025
تسجيلحلب رغم ماضيها السحيق؛ إلاّ أنّ حلب تأخذ أبعادها في الذاكرة العربية بدايات القرن الرابع الهجري وولادة الدويلات المدن في ظل ضعف المركز بغداد ، فمع تمدّد الحمدانيين بين الموصل و حلب على أكتاف الفرات الشامي، كانت عبقرية شعرية تبحث عن موضوع يسعها، وكانت الإمارة الصغيرة قبضت على مبرر وجودها، ونبت مثلث صغير في ذاكرة التاريخ والأدب والوجدان القومي رؤوسه ( سيف الدولة الحمداني- أبو الطيب المتنبي – حلب) ، وفي غضون تسع سنوات تدفقت نصوص عبقرية كمنت في كهوف النسيان إلى أن أتاحت لها صحوة العرب المتأخرة الحياة المتجددة في متون الكتب والدواوين وكراريس الجامعات ودفاتر الطلاب وقصاصات الجرائد و حكايات العجائز ودروس الجامعات وساعات الدراما، و أغاني المطربين، فقد وجد هذا العراق في حلب ما لم يجده في الكوفة ولا في بغداد، ولن يجده في مصر ولا في بلاد فارس. مات سيف الدولة وسبقه المتنبي وبقيت حلب بقلعتها وحواريها وأهلها، حاضرة الفرات الأعلى، مرّ الصليبيون و المغول ، ومرّ المماليك والعثمانيون ، ومرّ الفرنسيون ، والمدينة تبتكر حيوات متجددة، تمدّ يدها للفرات والجبال و الصحراء ، وتحتضن الملل والنحل، و تعلّم العابرين معنى المدينة، وفنّ التعايش، وحلب من مدن الشرق القليلة التي تستطيع أن تنسى، لأنها مدينة. حلب أبينا إبراهيم عليه السلام وبقرته الشهباء، حلب الفارابي وابن جني و أبي علي الفارسي و كشاجم ، حلب عماد الدين الزنكي، حلب السهروردي والظاهر بن صلاح الدين، حلب ، حلب سعدالله الجابري و إبراهيم هنانو، حلب القوافل القادمة من الشرق والغرب، حلب القبائل العابرة محمّلة بخبز الطابونة والأدوية وجهاز العروس، حلب القناصل على مقاهي القرن التاسع عشر يحلمون بشرق لبون، حلب عشائر الصاخور وطريق الباب وتركمان الحيدرية وأكراد الأشرفية. حلب السمّيعة، والقدود، و صبري مدلّل وصباح فخري، حلب الزيتون والزيت والصابون والكباب والفول وسوار الست والبقلاوة والمشبّك والفستق . حلب الشاعر عمر أبو ريشة والسينمائي مصطفى العقاد، والروائي وليد إخلاصي، حلب الفجر الذي تعلن عنه ألف مئذنة، حلب باريس التي يتصل ليلها بنهارها، ويابان الشرق التي تلبس مما تنسج ، وتأكل مما تزرع، حلب باب النصر وجبّ القبّة، حلب أمّ الفقير وبنت ( الأكابريّة) وسلطانة الطرب، حلب الجامعة والجامع، والدروب التي تنتهي إلى الساحات، أو تنسدّ بين الحارات، حلب الهوامش التي اتّسعت لكادحي القرى العائدين من مواسم القحط و الهجرة ، حلب قوافل الروس والرومان ، حلب الأندية و المنتخبات و ( ديربي) الأهلاوية و العرباوية.حلب الطلبة المتناثرين في سيف الدولة و الخالدية وصلاح الدين، الحالمين بأفق أزرق تركوه هناك على الدروب. حلب التي تكبر على الجرح والدمار والضباع والذئاب ، حلب التي تفقد حاراتها شلواً شلواً ، حلب التي تستعدّ للزلزال وتدرك أن الصواريخ التي تدك أحياءها لن تطهرها ولن تحررها، حلب التي تغص بأبنائها الباقين ، وتلوّح لأبنائها المغادرين، و تلمّ حضنها على مسجد عمره ألف عام، حلب التي تركتني هناك طفلاً يمسك بيد أبيه في ساحة بنقوسة ، و شاباً يذرع ساحة كلية الآداب يمرّ بالشجر المقصوص للتوّ مقلداً ( ميراي ماتيو) . حلب التي يصرخ مطربها :" ما موت إلا بحلب"، ويشفق شاعر العربية الأول من ليل فتى فتيانها الطويل،حلب الأشهى من حبيبة والأبعد من نجم؛ كم من الموت يلزمنا لنغني أكثر.