06 نوفمبر 2025
تسجيلإن الحوار الساخن الذي يجري في تونس و مصر و ليبيا و اليمن حول توجهات الدساتير الجديدة المنبثقة من الثورات الشعبية هو حوار مفصلي و أساسي و مؤسس لأنظمة الحكم القادمة و المنشودة. و لا يخفى بالطبع ما يميز هذه الدول بعضها عن بعض من حيث مسارها التاريخي و مكانتها الجغرافية و قربها أو بعدها عن حضارة الغرب لكنها تتشابه جميعا في عروبتها و إسلامها و في حاجتها للديمقراطية و العدالة و التنمية المتوازنة الحقيقية و احترام حقوق الإنسان و الطموح المشروع للعودة لحركة التاريخ المعاصر بعد أن بقينا خمسين عاما على هامشه بلا تقدم و بلا إرادة و بلا هوية. الفصل الأول من الدساتير العربية الجديدة د.أحمد القديدي إن الحوار الساخن الذي يجري في تونس ومصر وليبيا واليمن حول توجهات الدساتير الجديدة المنبثقة من الثورات الشعبية هو حوار مفصلي وأساس ومؤسس لأنظمة الحكم القادمة والمنشودة. ولا يخفى بالطبع ما يميز هذه الدول بعضها عن بعض من حيث مسارها التاريخي ومكانتها الجغرافية وقربها أو بعدها عن حضارة الغرب لكنها تتشابه جميعا في عروبتها وإسلامها وفي حاجتها للديمقراطية والعدالة والتنمية المتوازنة الحقيقية واحترام حقوق الإنسان والطموح المشروع للعودة لحركة التاريخ المعاصر بعد أن بقينا خمسين عاما على هامشه بلا تقدم وبلا إرادة وبلا هوية. لعل معرفتي بالدستور التونسي وما حام حوله منذ نصف قرن من تجاذبات وخيبات تؤهلني للحديث عنه كأنموذج للدساتير العربية خاصة أن النقاش الراهن الدائر بين العائلات السياسية والفكرية التونسية حول فصله الأول يكاد يتحول إلى انشطار عنيف بين أبناء الوطن الواحد. ولا يمكن أن نتحدث عن الدستور التونسي دون الإشارة إلى أن تونس كانت الدولة العربية الأولى التي سنت دستورا حين أصدر ملكها محمد باشا باي دستورا سماه عهد الأمان في 10 سبتمبر 1857 تحت ضغط قناصل الدول الأوروبية التي خشيت على أمن أقلياتها المتواجدة بتونس ثم نقح هذا النص على أيدي خلفه الملك محمد الصادق باشا باي وصدر عام 1961 بشكل ومضمون استلهما من الدساتير الأوروبية ومن التنظيمات التركية. والعبرة التي يمكن استخلاصها من أول دستور عربي هي أنه لم يحم تونس من الاحتلال الفرنسي الغاشم (الذي تم سنة 1881) ولم يحم شعب تونس من استبداد الملوك بل إن ثورة شعبية قامت سنة 1864 تم قمعها بشراسة ووحشية ومات بطلها علي بن غذاهم في سجنه الرهيب بحلق الوادي. وأنا حين أعيد التذكير بعجز دستور عهد الأمان عن توفير الأمان للشعب والاستقلال للدولة فإنما لأضرب مثال دستور الجمهورية التونسية الذي سنه الزعيم بورقيبة يوم غرة يونيو – جوان 1959 والذي هو اليوم في بلادنا محل جدل ساخن يكاد يقسم الشعب التونسي إلى ثلاثة فرقاء: فريق إسلامي (من دون حركة النهضة) يساند التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر أساس من مصادر الدستور والقوانين وفريق سلفي ينادي بأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد وفريق علماني أو ليبرالي ذو توجهات غربية يدعو إلى استبعاد الإسلام تماما وعدم التنصيص على الشريعة. وإذا سلطنا العقل واعتمدنا الاعتبار فنحن مضطرون للإقرار بأن الفصل الأول من دستور 1959 الذي يقول: تونس دولة، حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربيّة لغتها، والجمهوريّة نظامها لم يضمن لبلادنا الحرية ولا صان فيها تعاليم الإسلام ولا حمى لغتها العربية بجد حيث ينطق أغلب أبناء تونس (و المغرب الإسلامي عموما) بلغة هجينة هي الفرنكو- عربية لأن برامج التربية حادت عن خيارات الدستور التي تؤكد أن "العربية لغتها". والأخطر أن عبارة "الجمهورية نظامها" لم تسعف الشعب من انحراف الجمهورية إلى ملكية مؤبدة لدى الزعيم بورقيبة في خرفه الطويل وكادت أن تتحول مع التحول إلى توريث غبي جهول لولا رحمة ربك وثورة شعب. فهل ينكر وطني عاقل أننا بعد نصف قرن من دستور 1959 وفصله الأول لم نحقق قيمة واحدة من القيم المنصوص عليها في فصله الأول وظلت بنوده في مهب الأهواء والنزوات. ولكن أساتذة القانون لدينا ينسون أن المشرع في المجلس التأسيسي لدستور 1959 قدم للدستور بديباجة (سموها توطئة) تقول: (نحن ممثّلو الشعب التونسي المجتمعون في مجلس قومي تأسيسي، نعلن أنّ هذا الشعب الذي تخلّص من السيطرة الأجنبيّة بفضل تكتّله العتيد وكفاحه ضدّ الطغيان والاستعمار والتخلّف، مصمّم على تعلّقه بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية والتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة، وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السلطة). هذه توطئة الدستور القديم وهي تؤكد أن الشعب التونسي متعلق بتعاليم الإسلام إبان استقلاله فهل من الحكمة أن نتراجع عن هذا التعلق بعد نصف قرن؟ الجواب يكمن في الاعتبار بفشل الدستور القديم وضرورة تحصين الهوية في الدستور الجديد.