06 نوفمبر 2025

تسجيل

"ثورة البوعزيزي" في عصر الفضائيات والمدونات

17 يناير 2011

السنة العربية الجديدة بدأت سيئة في الإسكندرية مع مذبحة الكنيسة، لكن أحداث تونس شكلت تحولاً إيجابياً بالغ العمق والتأثير، ولا مقارنة بين الحدثين لكن وقوعهما في فترة زمنية واحدة كان لافتاً، خصوصا أنهما استنهضا الحس الوطني وطرحا تحديات على الدولة هنا وهناك. في الوقت الذي يكثر الكلام الغربي، الأمريكي تحديداً، عن خطر سقوط أنظمة تحت ضغوط الإرهاب، تبين أن هذا الإرهاب ربما يكون "أهون" المخاطر بسبب هامشيته وفوضويته، وعدم ارتكازه على أهداف بعيدة المدى أو على أجندة إدارة وحكم، أي أنه ببساطة لا مستقبل له مهما سفك من دماء. الخطر على الأنظمة، إذن، هو من داخلها، كذلك من الأخطاء والإهمالات التي ترتكبها ثم تتركها تتراكم فلا تعود قادرة على تصحيحها ومعالجتها، الخطر يأتي أيضاً من المفاهيم والمنطلقات التي يبنى عليها الحكم، فكلما كانت غير موائمة للمجتمع عمقت الهوة بين الحاكم والمحكوم، ولا يمكن للجهاز الأمني وحده أن يجسّر هذه الهوة أو يردمها، لأنه يساهم أساساً في حفرها ومع الوقت تنشأ له مصلحة في بقائها، والخطر يأتي أخيراً من إلغاء السياسة وقتلها وتحويل الرأي الآخر إلى عدو يجدر التربص به وشل حركته. في النموذج التونسي الذي انهار أمام عيون العالم المندهش وغير المصدق، افتقد النظام في اللحظات الحرجة أي أداة للتواصل مع الناس، إلا أنه أدرك أنه هو من كان ألغاها منذ زمن، فلا الحكومة ولا البرلمان ولا الأحزاب الموالية أو المعارضة ولا هيئات المجتمع المدني استطاعت أن تقدم أي مساهمة، ناهيك عن الإعلام المحلي المقيد أو الإعلام الحكومي الموجه. لم يتوقع أحد أن يكون الشاب الجامعي العاطل عن العمل محمد البوعزيزي قد اختصر تونس كلها، بلداً وشعباً، لحظة أقدم على إحراق نفسه معلناً أن يأسه ونقمته وغضبه أصبحت فوق كافة الاحتمال، ولم يكن النظام التونسي نفسه يتوقع أن يختزل بشرطي بلدي استخدم موقعه السلطوي لإهانة البوعزيزي ومنعه من استخدام عربة متنقلة لبيع الخضار والفواكه، لكن هذا واقع الحال الذي كانت تونس آلت إليه، ومع ذلك فإن أشد الطامحين تفاؤلاً لم يعتقد أن تلك اللحظة في سيدي بوزيد ستكون حاسمة في تاريخ البلد. طوال عقدين ونيف، تعرض آلاف التونسيين لكل أنواع الإساءات، من سجن وتعذيب وتنكيل وقتل ونفي وقطع أرزاق، وتعرض الشعب برمته لكل أنواع الاحتقار وتزوير الإرادة، هذا شعب نشأ كما سمحت ظروفه وتميز بحس مدني رفيع وذائقة ثقافية منفتحة وتعددية سياسية معتدلة ومتسامحة، حتى الإسلامي فيها، كان النظام يعرف مجتمعه جيداً لكنه تجاهل حقائقه وعامله كما لو أنه عصابة من الرعاع وشذاذ الآفاق، فكل من لا ينتمي إلى الحزب الحاكم ولا يكون واضح الولاء والخنوع يصنف "خارج القانون" ويصار إلى تهميشه وتهشيمه تمهيداً لشطبه. لم يكن أحد في الخارج يفهم الدوافع الحقيقية أو الواقعية التي تجعل النظام يحترف هذه القسوة غير المبررة حيال شعبه، وقد واجهت حكومات غربية وعربية عديدة نماذج من مغالاة هذا النظام في مطاردة معارضيه حتى بعد أن يختاروا النفي القسري، وإذا كان هناك تفهم في البداية لاستهدافه الإسلاميين إلا أنه بعد تصفيته هؤلاء لم يعد يميز بينهم وبين العلمانيين أو حتى قدامى الحزب الحاكم الذين راحوا يجهرون بمآخذهم على الانتهاك العلني المحموم للحريات، كان على سفراء النظام في مختلف العواصم أن يخصصوا جل نشاطهم للاحتجاج لدى الحكومات المعتمدين عندها على سطر في مقال صحفي أو على استقبال قناة تليفزيونية لأي معارض، واستحث القضاء في أكثر من دولة أوروبية للنظر في قضايا رفعتها الشعارات ضد المعارضين، لكن كل تلك القضايا لم تتوصل إلى النهايات التي يريدها النظام لمجرد أن الأدلة التي قدمها كانت ملفقة ومختلقة ولا تصلح لأي محاكمة. لكن العواصم الخارجية، خصوصاً الغربية، اهتمت بالفرص التي أوجدها النظام للاستثمار وبحوافز استنسابية، ومادام أنه جعل من مكافحة "الإرهاب" ركيزة للنشاط الأمني ومن الانفتاح الاقتصادي وسيلة للتنمية ومن رفع نسبة النمو هدفاً للدولة، فإن الشركاء الدوليين غضوا النظر عن القبضة الحديدية التي كان يعامل بها شعبه وتجاهلوا مسائل الحريات وحقوق الإنسان، بل لعلهم اعتبروا أن هذه ربما تكون الطريقة الوحيدة لكبح جماح التطرف والعنف الدينيين، حتى أنهم أكثر من ذلك راحوا يشيرون إلى تونس على أنها قدوة في هذا المجال، ولعل ما شجعهم على ذلك أن الأرقام المتداولة دولياً كانت تشير إلى اقتصاد سليم ونمو جيد، لكن فاتهم أن الأزمة المالية العالمية تفجرت في ذروة الانتعاش، وفاتهم أيضا أن البيانات المالية الوردية للاقتصاد التونسي كانت تحجب حالات فساد فائقة وتركزاً للثروات في أيدي قلة من المحسوبين على النظام وزبانيته والقريبين منه. كانت القبضة الحديد طوال ثلاثة وعشرين عاماً قادت أحزاب المعارضة (الحقيقية) وحتى مختلف فئات الشعب إلى البحث الدائب عن أي نوع من التوافقات أو الحلول الوسط مع النظام، وسط مناخ عام ينطلق من أن هذا حكم ميؤوس منه. ظلت المعارضة تخفض من سقوف توقعاتها آملة ولو بأي رمق من الإصلاح أو تعديل في الغلو الاستبدادي، أما المجتمع نفسه فبدا كأنه مستعد للمساومة الكبرى، خذوا كل الحقوق والحريات واتركوا لنا لقمة العيش، ووسط مجموعة من حديثي النعمة الذين راحوا يزدادون بل يفحشون في الثراء، زاد الفقراء فقراً، وراحت الطبقة الوسطى تتآكل وتنهار علما بأن النظام نفسه كان يشير إلى هذه الطبقة ويفاخر بأنه يدعمها ويعتمد عليها في الحفاظ على استقرار الاقتصاد التونسي، لكنه لم يستطع أو لم ينتبه إلى أحوال هذه الطبقة وسط جشع المنتفعين الذين ظن أنهم يشكلون دعامة قوية لبقائه في السلطة. إلى الثغرات الكارثية التي أظهرتها حال الاقتصاد والأخطاء في خيارات التنمية، جاء المقتل الآخر للنظام من عدوه رقم واحد: الإعلام. إذ لم يفطن إلى التطورات التقنية التي اخترقت الحواجز رغم أنه جهد لمقاومتها بالحجب والتشويش والرقابة الشديدة، كان للفضائيات والإنترنت دور حاسم في "ثورة البوعزيزي"، ليس فقط في تغطيتها وتسليط الضوء على وقائعها وتأمين التواصل بين فئات تونس ومناطقها، وإنما خصوصا في تظهير جوهرها السياسي الذي أنكره النظام وحاول طمسه وعندما أدركه واعترف به كان الأوان قد فات، فما كان للشارع أن يبقى على ثباته وإصراره طوال خمسة أسابيع لولا الإعلام الذي كان التونسيون ظنوا أنه خذلهم إلى الأبد بفعل المضايقات التي أتقن النظام ممارستها بلا كلل، لكنه سقط أخيراً وهو يحاول استمالتها لمساعدته وقد جاء سعيه هذا متأخراً أيضاً، كان مؤثراً سماع أصوات التونسيين إذ يبدأون أي مداخلة إعلامية بالقول: شكراً..