07 نوفمبر 2025

تسجيل

الليرة التركية بين الاقتصاد والسياسة

16 أغسطس 2018

هناك عوامل عدة خلف السقوط الحر لليرة التركية مؤخرا، اذ فقدت ما يقارب 18 % من قيمتها مقابل الدولار الامريكي يوم الجمعة الماضي وهو انخفاض باكثر من 45 % منذ بداية هذا العام، وهو الأدنى مستوى لها خلال عقد من الزمن. ويبدو ان أزمة الليرة التركية عرض لأزمة مالية تركية مركبة أسهمت فيها عوامل داخلية وخارجية. فداخليا هناك انكشاف كبير للاقتصاد التركي على حركة رؤوس الأموال العالمية منذ انفجار الازمة المالية العالمية عام 2008، وما نتج عنه من توسع كبير في الاقتراض بالعملة الاجنبية مما أدى الى ارتفاع الدين الخارجي على البلاد، وتبعات ذلك من ارتفاع في معدلات التضخم وضغوطات على العملة. ولكن هناك ايضا قوى خارجية تسعى لاستغلال هذه الأوضاع الاقتصادية الداخلية وهي ليست بجديدة، لإلحاق الضرر بالاقتصاد التركي، كما اتضح في عدة مناسبات منها ما قام به مؤخرا الرئيس ترامب من فرض عقوبات اقتصادية على تركيا اثناء فترة هبوط الليرة مما أجج انزلاقها وقد يكون ذلك بهدف تقويض ثقة المستثمرين في النظام المالي التركي والدفع نحو هروب رؤوس الأموال وانهيار الليرة، وبالتزامن مع ذلك ايضا قيام بعض المؤسسات المالية والصناديق الاستثمارية المتمركزة في لندن بمضاربات على الليرة التركية بحسب بعض المصادر المالية الرسمية التركية، وايضا في الولايات المتحدة الامريكية (وجزء منها بدافع سياسي متعمد لايذاء الليرة التركية، ولكن جزءا منها ايضا بدافع اقتصادي للتحوط، وقبل ذلك في شهر مايو الماضي تم الكشف عن ضلوع دولتين عربيتين في المضاربات على الليرة التركية، احداهما الامارات بحسب اطلاعي على مصادر رسمية تركية، ولا استبعد ضلوع هذه الدول العربية الان ايضا في هذه المضاربات، فهناك تشكك لدى من تحدثت اليهم من مسؤولين أتراك معنيين، بدور للامارات في هذه المضاربات، وقد ذكر وزير المالية التركي أن الليرة تتعرض لهجوم. العامل المحفز.. عامل سياسي فعلى الجانب السياسي، أدى تصعيد التوتر السياسي من قبل الولايات المتحدة وفرض عقوبات على تركيا الى خشية المستثمرين من تدهور العلاقات بين البلدين والتصعيد الى حصار مالي على تركيا وهذا يخلق ازمة ثقة في الليرة والنظام المالي التركي، ويؤدي الى عزوف المستثمرين والدفع نحو خروج الاستثمارات وتفاقم الأوضاع الاقتصادية المحلية؛ خصوصا ان الرئيس اردوغان وضع ما يجري في إطار حرب اقتصادية على بلاده لخلق ازمة مالية للإطاحة به من قبل نفس القوى "الغربية" التي لم تستطع الإطاحة به من خلال محاولة انقلابية فاشلة عام 2016، وتوعد بافشال هذه الحرب الاقتصادية. جذور الأزمة.. ارتدادات للأزمة المالية العالمية أما الجذور الاقتصادية لهذه الازمة فتعود الى الفترة التي اعقبت انفجار الازمة المالية العالمية عام 2008، وتبني الاحتياطي الفدرالي الامريكي سياسات نقدية توسعية غير تقليدية، من خلال اسعار فائدة قرب صفرية وبرامج تيسير كمي لضخ كميات هائلة من السيولة لإنقاذ النظام المالي وتحفيز النمو في الولايات المتحدة، وهذا أدى الى تدفقات هائلة وغير مسبوقة في رؤوس الأموال (معظمها قصيرة الأجل) الى الاقتصادات المتحولة للاستفادة من فارق اسعار الفائدة، وكان على رأسها الاقتصاد التركي، وهذا أدى الى توسع كبير في الاقتراض الرخيص بالعملة الاجنبية وتراكم ديون خارجية على البلاد معظمها قصيرة الأجل في قطاع الأصول (وتقدر بعض المصادر ما يفوق حجمه 250 مليار دولار ديون على قطاع المؤسسات التركي معظمها مستحق السداد خلال سنة، و66 مليار دولار على مؤسسات قطاع خاص غير ماليه، و76 مليار دولار على البنوك التركية مستحقة السداد أو التدوير خلال سنه، كما فاقت المطلوبات بالعملة الاجنبية على الشركات غير المالية الموجودات بمبلغ 200 مليار دولار). والآن مع خروج الاحتياطي الفدرالي الامريكي من السياسة النقدية غير التقليدية وسحب السيولة من النظام المالي ورفع اسعار الفائدة، فان ذلك يؤدي الى حركة عكسية في وجهة رؤوس الأموال بشكل عام وخروجها من تركيا وغيرها من الاقتصادات المتحولة، وكذلك يسهم في ارتفاع سعر صرف الدولار الامريكي، وهو ما يؤدي بدوره الى ارتفاع عبء الدين الخارجي لبسببين؛ ارتفاع خدمة الدين، والتسديد بعملة محلية منخفضة القيمة امام عملة الاقتراض الدولار. وهذه ضغوط اصبح يواجهها العديد من الاقتصادات المتحولة التي افرطت في الاقتراض بالعملة الامريكية، منذ بداية ارتفاع الدولار في شهر ابريل الماضي، ومن المتوقع أن يستمر الاحتياطي الفدرالي في رفع اسعار الفائدة في الفترات القادمة مما يعني استمرار الضغوط على الاقتصادات الناشئة المحملة بالديون الدولارية وتركيا في مقدمة  تلك الدول. والخلاصة أن ما يجري في تركيا هو أحد ارتدادات الازمة المالية العالمية، ويخشى امتداد ذلك الى غيرها من الاقتصادات الناشئة التي أفرطت في الاقتراض الرخيص في أعقاب الازمة المالية العالمية عام 2008، وراكمت كميات كبيرة من الديون الاجنبية قصيرة الأجل، وتوجد بعض المؤشرات على ذلك بالفعل. فالاحتياطي الفدرالي الامريكي يغرق العالم بالسيولة التي تزعزع الاستقرار الاقتصادي في العديد من مناطق العالم ولكنه لا يتحمل نتيجة ذلك. وهذه اشكالية تقليدية متكررة في معطم الازمات المالية العالمية، منها ازمة شرق آسيا المالية في عام 1997 وكذلك الازمة المالية العالمية عام 2008 في الغرب. قلق المستثمرين ومخاطر انتشار العدوى ما يثير قلق المستثمرين الان أمران هما، تصاعد التوتر السياسي مع الولايات المتحدة، وبعض الأوضاع الاقتصادية المحلية؛ منها ارتفاع معدل التضخم الذي وصل الى 15.8 % في شهر يوليو الماضي وعدم استقلالية السياسة النقدية لمواجهة ذلك، في ظل سياسة توسع اقتصادي قائمة على الاقتراض الخارجي مما يغذي التضخم والضغوط على العملة المحلية، اذ يعارض الرئيس اردوغان رفع أسعار الفائدة خشية تأثيرات ذلك بالسلب على النمو. وعلى الحكومة التركية التخطيط بحكمة للخروج التدريجي السلس soft landing من طفرة ممولة بالاقتراض الخارجي لتجنب انفجار فقاعة بسبب هجرة عكسية قوية في رؤوس الأموال قصيرة الآجل واتخاذ بعض الإجراءات لطمأنة المستثمرين، وسد القنوات على المتربصين للإضرار بلاقتصاد التركي. واندلاع أزمة مالية شاملة في تركيا سيطول غيرها ويحمل مخاطر كبيرة لانتشار العدوى الى اسواق الاقتصادات المتحولة، قد تصل الى إندونيسا والأرجنتين اللتين اتخذ بنكهما المركزيين إجراءات لدعم عملتيهما اثر انخفاضهما تأثرا بما يجري في تركيا، كما انه توجد مخاطر وضغوط على عملات كل من جنوب افريقيا والهند والمكسيك وروسيا، بالاضافة الى انكشافات لبنوك أوروبية (إيطالية وإسبانية وغيرها) على القطاع المالي التركي، ولن يكون ذلك في صالح أوروبا على من جوانب جيوسياسية ايضا نظرا لموقع تركيا الجغرافي بين اوروبا ومناطق مضطربة سياسيا في الشرق الأوسط وإيوائها لإعداد كبيرة من اللاجئين السوريين. الإصلاحات المطلوبة لا يجب أن ينظر فقط للجانب السلبي من هذه الازمة، فمن الممكن أن تؤدي الى تقوية الاقتصاد مستقبلا اذا دفعت: (ا) نحو التحول السلس أو باقل خسائر ممكنة من نموذج نمو (في قطاع الأصول) قائم على الدين الخارجي نحو بناء القدرات الذاتية الإنتاجية للاقتصاد التركي، في مجال التصنيع الموجه للتصدير على وجه الخصوص، واستقطاب رؤوس أموال طويلة الاجل الى قطاعات إنتاجية ذات قيم مضافة عالية، كالتصنيع والتكنولوجيا وليس رؤوس أموال قصيرة الاجل مضاربة في أسوِاق المال والعقار، وتوظيف رأس المال البشري والتكنولوجيا لذلك الغرض، وتركيا لديها الإمكانات لتحقيق ذلك، و(ب) نحو إيجاد بدائل وتقليص الاعتماد على امريكا والمزيد من تنويع الشركاء التجاريين والماليين (مع القوى الصاعدة وغيرها)، و(ج) نحو اجراء إصلاحات على السياسات الاقتصادية الكلية، وتبني سياسة نقدية اكثر استقلالية وموجهة نحو احتواء التضخم. والطريقة التقليدية والأسرع لمواجهة التضخم هي برفع اسعار الفائدة، وذلك مطلوب الان ايضا للحد من خروج رؤوس الأموال (ولكن الرفع الكبير دفعة واحدة، كما يطالب البعض، قد يأتي بنتائج عكسية ويضر بالقطاع المالي والاقتصاد التركي). وعلى الحكومة الحد من الاقتراض الخارجي والعمل على خفض العجزين (في الميزانية والحساب الجاري) لطمأنة المستثمرين، وتطبيق معايير احترازية اكثر صرامة في مجال الاقتراض الخارجي، واتحدث هنا من منظور تجربتنا الناجحة في قطر على مستوى دول مجلس التعاون وغيرها من دول العالم، خلال الازمات المالية السابقة والتي أشاد بها صندوق النقد الدولي. فرفع اسعار الفائدة والتضحية بالنمو مؤقتا تأتي لصالح تعزيز الاستقرار المالي الان، والنمو مستقبلا. وبالفعل أعلنت الحكومة التركية عن تبني نموذج اقتصادي جديد تتمثل ملامحه الرئيسية في: (1) التأكيد على مبدأ استقلالية البنك المركزي وتعزيز الاستقرار المالي، لتعزيز ثقة المستثمرين، و(2) خطة للحكومة لاستكمال المرحلة الاولى من الخروج الآمن من اقتصاد الطفرة هذا العام من خلال خفض النمو بحدود 3 %، والتركيز على ثلاث أولويات وهي محاربة التضخم بقوة، وخفض العجزين؛ في الميزانية الى 1.5 % من الناتج المحلي الاجمالي، وفِي الحساب الجاري من 5.5 % الى 4 %. كما أعلن البنك المركزي يوم الاثنين عن اتخاذ إجراءات لدعم الليرة وتعزيز السيولة، فخفض نسب الاحتياطي الإلزامي على العملتين المحلية (بـ 2.5 %) والاجنبية (بـ 4 %)، وهذه الإجراءات ستتيح ما قدره 10 مليارات ليرة، و6 مليارات دولار، وما يعادل 3 مليارات من الذهب لدعم السيولة المحلية. وبالفعل حدت هذه الإجراءات من تدهور الليرة التي ارتفعت من أدنى مستوى لها عند 7.24 ليرة للدولار الواحد الى 6.98 يوم الاثنين، ولكنها لاتزال تحت ضغوط البيع. كما أطلقت السلطات حملة تحقيقات حول المئات من حسابات التواصل الاجتماعي التي اتهمت بأن لها دورا أسهم في هبوط الليرة، ووصفها الرئيس اردوغان بشبكة من الخونة والارهابيين الاقتصاديين. إن سياسات الثور الهائج التي يتبعها ترامب، ينطح يمينا وشمالا، لا يفرق بين عدو ولا صديق، سيكون لها تبعات على التجارة العالمية، وفي الغالب ستدفع الكثير من الدول المتضررة الى السعي للتعاون فيما بينها لحماية مصالحها الاقتصادية القومية، وعلى تركيا السعي في هذا الاتجاة لبناء علاقات اقتصادية مبنية على مصالح استراتيجية مشتركة مع القوى الصاعدة، في الشرق على وجه الخصوص وغيره، وعدم الوقوع في فخ الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وهي الخطوة التالية والمدمرة التي تسعى اليها القوى الغربية الاستعمارية في مثل هذه الازمات، لامتصاص ثروات الشعوب وإبقائها في دائرة العبودية.