14 نوفمبر 2025

تسجيل

تركيا و"لعبة الهويتين"

16 يوليو 2011

عرفت تركيا خلال أقل من مئة عام ثلاثة اختبارات تتصل بالهوية. الأول الهوية العثمانية الإسلامية خلال العهد العثماني. الثاني الهوية العلمانية الأوروبية المتنكرة تماما للهوية الإسلامية وبدأ مع مصطفى كمال أتاتورك عام 1923 واستمر حتى الأمس القريب. الاختبار الثالث كان مع حزب العدالة والتنمية الذي أراد المزاوجة بين الهويتين. ليس من شعب أو مجتمع تعرض لامتحان هوية ثلاث مرات خلال أقل من قرن. ولعل من العوامل التي ساهمت في خلق هذه المفارقة هو الموقع الجغرافي لتركيا بين الغرب والشرق والشمال والجنوب وكونها خط تماس حضاري بين المسيحية والإسلام. وكلما تغيرت التوازنات الدولية كانت تركيا عرضة لتحولات الهوية تارة إلى الشرق وأخرى إلى الغرب وثالثة بين بين. المحاولة الأخيرة أو الاختبار الأخير كان الأكثر تحديا لمنظري الاستراتيجيات في تركيا.وقد انطلقت تركيا مع حزب العدالة والتنمية في نظرية حاولت ممارستها عمليا تقول بالتوازن بين الجميع .أي أن تكون على علاقة جيدة مع إسرائيل والفلسطينيين ومع إيران وسوريا والسعودية ومصر ودول الخليج ومع الشيعة والسنة ومع العرب والأكراد والأرمن واليونانيين. وأن تكون في الوقت نفسه عضوا في حلف الناتو وفي منظمة المؤتمر الإسلامي وأن تدافع عن القضايا الإسلامية وأن تكون جزءا من عمليات الأطلسي وكلها في الجغرافيا الإسلامية تحت ذرائع شتى. بعدما انتصر رجب طيب أردوغان في الانتخابات الخيرة وقف من على شرفة مقر حزب العدالة والتنمية مهديا الديموقراطية التركية إلى العالم العربي. أراد أن يقول إن تركيا بلد غربي ديموقراطيا في الشرق الإسلامي. وفي اجتماعاته مع حلف الناتو ومع دول الاتحاد الأوروبي يطرح أردوغان تركيا على أنها البلد الإسلامي الوحيد في الحلف والاتحاد. وهي لعبة محفوفة بالمخاطر. ليس من بلد واحد في العالم يمكن أن يجمع الأضداد. لو قدر له ذلك فبدافع الصدفة غير الدائمة. لكن مع التوغل في الأزمات والتحديات لا مناص من حسم الوجهة. كسبت تركيا لفترة هي الفترة التجريبية بعض النقاط في سياسة تصفير المشكلات وتعدد الأبعاد.لكن ما إن ارتفع جدار التحدي كان العجز واضحا على الاستمرار في هذه السياسة. ففي القضية الليبية اضطرت أنقرة إلى أن تقف في النهاية إلى جانب التدخل العسكري للأطلسي بل أيضا المشاركة فيه. وفي أفغانستان الأمر نفسه.وفي الموقف من سوريا ومن معها من حلفاء كان الافتراق المفاجئ. لم يكن ممكنا أن تواصل تركيا سياسة الموقفين في القضية الواحدة. كان هذا سؤالا ارتفع منذ اللحظة الأولى.هل يمكن لتركيا أن تكون مع إسرائيل عسكريا واقتصاديا وحتى سياسيا وأن تكون في الوقت نفسه مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية؟إما أن تركيا هي في الأساس مع إسرائيل وتكون القضية الفلسطينية لزوم ما لا يلزم.وإما أن تكون تركيا مع القضية الفلسطينية والتحرير وعودة اللاجئين والقدس عاصمة لفلسطين ويكون لها مواقف واضحة من أجل ذلك وتكون إسرائيل عندها لزوم ما لا يلزم في السياسة الخارجية التركية. على سبيل المثال تتباين مواقف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية من قضايا المنطقة لكنها في النهاية تنطلق من قاعدة مركزية أساسية وهي أمن إسرائيل والهيمنة على المنطقة ويكون العالم العربي والإسلامي لزوم ما لا يلزم. بالفعل إن مشكلة تركيا الرئيسية هي في أزمة الخيار والهوية.كانت الخيارات محلولة إلى حد ما أثناء الفترة العثمانية وأثناء الفترة الأتاتوركية وما بعدها.لكن اليوم إن محاولة أن تكون غربيا وشرقيا في الوقت نفسه هو مما يفاقم أزمة الهوية في تركيا.وقد أكدت الثورات العربية وأزمة أسطول الحرية وليبيا والدرع الصاروخية وقبرص أن "لعبة الهويتين" غير واقعية وغير ممكنة وغير مطلوبة.إنها هروب من الهويتين معا.وهي أخطر على تركيا من خيار الهوية الواحدة. الهوية الواحدة ليست خيارا ضد الأخرى.الهوية الواحدة انتماء إلى أصل وجذر واحترام للهوية الأخرى والاستفادة منها لكن ليس إحلالها محل الهوية الأصلية. وهوية تركيا الأصلية هي الهوية الإسلامية المنفتحة والمستفيدة من إنجازات الحضارة الغربية.وحينها لن تخسر تركيا إحدا.ستكسب أبناء الهويات الأصلية من جيرانها من إيران وسوريا إلى السعودية ومصر وتحظى باحترام الهوية الأخرى..الغربية. تركيا اليوم تعاني من "قلق الهويتين".وما ظن أنه معجزة الجمع بين المحورين ليس سوى لهو في وقت ضائع ونتيجته اكتساب عداوة الجميع وانتصار خيار " اللاهوية".