15 نوفمبر 2025

تسجيل

التعليم من أجل التنمية المستدامة؟

16 يونيو 2012

التنمية المستدامة لها مفاهيم متعددة إلا أنها يمكن تلخيصها في العملية التي ينتج عنها زيادة فرص حياة الأفراد دون نقصان من فرص حياة الآخرين، أو هي تمكين إنسان اليوم من حياة أفضل، وتحقيق المزيد من الرفاهية والعدل الاجتماعي والأمان له، مع الحفاظ لإنسان الغد على حقه في الرفاهية والعدل الاجتماعي والأمان. وإذا كانت التنمية المستدامة تستهدف تمكين الإنسان فإن التعليم يستهدف تحقيق إنسانية الإنسان وتمكينه أيضا من خلال تعليم العلوم بمعناها الواسع لتحقيق التنمية المستدامة، حيث يمكن لتعليم العلوم مساعدة الناس، شباباً وكباراً، على تطوير معارفهم العلمية واتجاهاتهم وقيمهم ومهاراتهم وتفكيرهم النقدي؛الأمر الذي يشكل الوسيلة التي لا غنى عنها للعيش في مجتمعات تشهد تطوراً سريعاً. ويرمي التعليم العلمي من أجل التنمية المستدامة إلى توسيع نطاق فهم الطلاب للقضايا العالمية المرتبطة بالبيئة مثل: تغير المناخ، والمياه، والطاقة، والصحة، والموارد المحدودة، إضافة إلى مساعدتهم على إيجاد الوسائل لمواجهة كل هذه التحديات. البداية كانت في مؤتمر قمة الأرض الذي عُقد في البرازيل (ريو داجينيرو) عام 1992، تم تكليف اليونسكو باستخدام العلوم والتعليم وتنمية الوعي العام والتدريب لأغراض تنمية مستدامة، ثم دعت اليونسكو – من خلال المدير العام السيد فريدريكو مايور – إلى الدعوة لعقد لجنة دولية للاجتماع والتأمل في التربية والتعليم للقرن الحادي والعشرين، وبناء عليه، طلب فيديريكو من جاك ديلور أن يترأس هذه اللجنة، وقد عمدت اللجنة إلى إجراء مشاورات على أوسع نطاق، واجتمعت اللجنة في جلسات عامة ثماني مرات وفي مجموعات عمل ثماني مرات كذلك، وذلك لبحث الموضوعات الكبرى التي وقع عليها الاختيار وكذلك الاهتمامات والمشكلات التي تخص منطقة بعينها أو مجموعة معينة من البلدان. وشارك في مجموعات العمل هذه ممثلون لتشكيلة واسعة من الأنشطة والمهن والمنظمات ذات الصلة المباشرة أو غير المباشرة بالتعليم النظامي أو غير النظامي من معلمين وباحثين وطلبة ومسؤولين حكوميين وأعضاء من منظمات حكومية وغير حكومية وطنية ودولية. ووضعت اللجنة تقريرها الذي تناول مفهوم التربية بأوسع معانيها، من التعليم قبل المدرسي، وحتى التعليم العالي مروراً بالتعليم المدرسي، وشمل التعليم النظامي والتعليم غير النظامي، وعرض لطائفة واسعة من الهيئات والمؤسسات المعنية بالتعليم. ومن ناحية أخرى انصبت استنتاجات التقرير وتوصياته على المسؤولين العاملين على رسم سياسة التعليم والمسؤولين عن اتخاذ القرارات المبرمجة بشأنه، وبوجه أعم إلى جميع أولئك الذين تقع على عاتقهم مهمة وضع خطط التعليم وأنشطته وتنفيذها، وخرج التقرير باقتراحات وتوصيات كانت بمنزلة برنامج للتجديد والعمل لمتخذي القرارات والمسؤولين الرسميين على أعلى مستوى، حيث اقترح التقرير مناهج لسياسة التعليم وممارساته تجمع بين التجديد والواقعية مع مراعاة التنوع الشديد في الأوضاع والاحتياجات والموارد والتطلعات تبعا للبلدان والمناطق بما يحقق التنمية المستدامة، وصدر التقرير عام 1996 وكان أهم ما في التقرير أن الحياة في القرن الحادي والعشرين، تعتمد على أربعة مرتكزات هي: تعلم لتكن، تعلم لتعرف، تعلم لتعمل، وتعلم لتعش مع الآخرين. ثم جاء "إعلان الألفية" و "الأهداف الإنمائية للألفية" اللذان اعتُمدا عام 2000، للتأكيد من جديد التزام المجتمع الدولي بالعمل لصالح "تنمية تكون حقا مستدامة واحترام الطبيعة قيمة أساسية. وفي مؤتمر جوهانسبرج، عام 2002، أكدت اليونسكو رغبتها المضي قُدُما نحو ترجمة جدول أعمال القرن 21 وتحويل إلى واقع ملموس، واستهلّته بعقد عدة شراكات تعليمية منها على الخصوص البرنامج الطليعي المتعلق بتعليم سكان الأرياف، وغيره من المشروعات التعليمية الهادفة في النهاية لتحقيق التنمية التعليمية بما يتواكب مع التنمية المستدامة، كذلك تنفيذ عقد الأمم المتحدة (2005- 2014) للتعليم من أجل التنمية المستدامة. والعمل على بناء عالم تتاح فيه لكل شخص فرصة الانتفاع بالتعليم، واكتساب القيم، وأنماط السلوك وأساليب العيش، وكل ما يلزم من أجل بناء مستقبل قابل للاستمرار من أجل تحقيق عالم أفضل. ومن خلال دراسة التقارير والمؤتمرات السابقة يمكن القول إن التعليم من أجل التنمية المستدامة يقصد به: - تعليم يمكّن الدارسين من اكتساب ما يلزم من تقنيات ومهارات وقيم ومعارف لضمان تنمية مستدامة. - تعليم يبشر للجميع الانتفاع بمختلف مستوياته أيا كان السياق الاجتماعي: البيئة العائلية والمدرسية، وبيئة مكان العمل، وبيئة الجماعة. - تعليم يُعِدّ مواطنين يتحملون مسؤولياتهم، ويشجع على الديمقراطية من حيث يمكّن جميع الأفراد والجماعات من التمتع بكل حقوقهم إلى جانب قيامهم بجميع واجباتهم. - تعليم يدخل في منظوره التعلم مدى الحياة. - تعليم يضمن نمو كل شخص نمواً متوازناً. - تعليم له عائد ومردود سواء كان للإنسان أو للمجتمع. - تعليم لبناء شخصية إنسانية متكاملة من النواحي العقلية والروحية والاجتماعية والأخلاقية والجمالية. ثانيا: ما التوجهات الإستراتيجية المستقبلية للتعليم في الوطن العربي؟ التوجهات الإستراتيجية للتعليم هي مجموعة من المبادئ الحاكمة اللازمة لتحقيق غاياته، وفي هذه الورقة يمكن عرض حزمة أساسية من التوجهات الإستراتيجية لمستقبل التعليم كأساس لبناء رأسمال بشرى متنام وراق النوعية، في البلدان العربية وهي: 1- الارتكاز على حضارة هذا الوطن وعلى شخصية الإنسان والمكان أصالة ومعاصرة لمتطلبات العصر وتقنياته، ومعززة بالإمكانات والقدرات لبناء إنسان قادر على إعادة تشكيل حياته وصياغتها صياغة تنأى عن التلقين والحشو والسطحية، والعمل على تكوين الشخصية، وتنمية المهارات والملكات الفكرية، وغرس القيم الجمالية، والقيم الثقافة وتنمية التذوق والربط بين النظرية والتطبيق، وشجاعة إبداء الرأي وقبول الرأي الآخر، والتحاور، والاتفاق والاختلاف تدعيما لأواصر الديمقراطية. 2- تكامل التعليم بالتدريب، وخلق مناخ وبيئة تدعم التعلم الفردي المستمر وارتباطه بسوق العمل. 3- وضع سياسات تربوية تعليمية من أجل تعليم مستمر وتعلم ذاتي، وتعليم عن بعد، وتعليم مفتوح، وتعلم وتدريب مدى الحياة خلال جهد تربوي يستحق أن نكرس له الجهود، لبناء إنسان معتز بكرامته مطمئن لغده. 4- تكوين منظومة برنامج لتطوير التعليم على الصعيد العربي، فهناك حاجة ماسة لقيام برنامج عملي تعليمي عربي لتطوير التعليم في البلدان العربية، يقوم على أساس برامج قطرية ولكن في إطار تعاون عربي مشترك وفعال، ولم يعد التطور في السياق القطري المنفرد ـ في هذا الميدان ـ كافياً، لقد حقق التطور القطري ما يمكن تحقيقه من توسع كبير في الانتشار الكمي للتعليم الأساسي، خاصة في البلدان العربية الأغنى، محدودة السكان، بينما يبقى تحدي الكم كبيراً في البلدان العربية الفقيرة، خاصة في المراحل العليا. 5- بناء رأسمال بشري راق النوعية، فلا توجد غاية تعدل تطوير نسق التعليم بحيث يؤدي إلى اكتساب البشر للمعارف والقدرات والتوجهات التي تتناسب ومقتضيات القرن الواحد والعشرين من ناحية، والذي يؤذن بقسمة جديدة بين البشر على هذا الكوكب حسب مدى تملكهم لناصية المعرفة والتقنية الأحدث من ناحية أخرى. ويتبلور الطموح للنهضة في الوطن العربي، في مجال الاستثمار البشري الراقي النوعية، في غايات ثلاث وهي: أ‌- التوسع في التعليم الأساسي، وأن يكون شاملاً بحق، ومجاناً بالكامل مع إطالة مدته الإلزامية. ب‌- استحداث نسق مؤسسي لتعليم الكبار، مستمر مدى الحياة، فائق المرونة ودائب التطور، من أجل مكافحة فعالة للأمية من ناحية، وإعمالاً لمبدأ التعلم المستمر مدى الحياة لخريجي النظام التعليمي من ناحية أخرى. ج - نشر التعليم وتجويده من خلال تجديد كامل متكامل لبنية التعليم ومحتواه وأدواته، حاملا في ثنايا بنيته بذور تجدده دوماً، بما يفجّر لدى أبنائه الطاقات المبدعة القادرة على إنتاج مجتمع جديد حيوي ومقتدر، ومنطلق هذا التجديد الكامل، توفير صلة عضوية متلاحمة بين التعليم وبين البنى الاجتماعية والمهنية والتقانية والثقافية الجديدة التي يستلزمها بناء مجتمع عربي يحاول أن يتشكل في سياق عالمي وإقليمي مضطرب وسريع التغير. 6- نظرة تكاملية بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية، وليس النظرة القطاعية التي تضيّق من مجال الاهتمام بالتعليم وجهود تطويره، فالتعليم في نهاية المطاف هو جهد مجتمعي يقوم على تفاعل مختلف القوى النشطة في المجتمع، ولا يقتصر على عمل وزارة أو أكثر، بعبارة أخرى، يتعين أن يصبح التعليم ضرورة للمجتمع كله بمؤسساته الحكومية وأجهزة الدولة كافة، وقطاع الأعمال والمجتمع المدني وبخاصة على مستوى المجتمعات المحلية. 7- إيجاد نقاط دخول وخروج داخل جميع مراحل التعليم تكفل ترقية نوعية التعليم، بما يؤدي إلى تبلور مسار للحداثة والتميز والإبداع كمدخل للإمساك بناصية المعرفة والتقنية الأحدث في المجتمعات العربية.