12 نوفمبر 2025
تسجيلاعتاد في كل صباح وقبل أن يرتشف فنجان قهوته الصباحي أن يطلق تفاؤله بابتسامات وتعليقات لطيفة الازعاج وأن يعبئ وعاء صغيرا على نافذة مكتبه بالماء ويفتت حبات البسكوت والخبز والكعك لينثرها قريبة منه بشكل يومي للطيور الصغيرة العطشى حد الانهاك والموت، في صباح قريب غاب، في هدوء أخذت مكانه لم أكن حاضرة الذهن لأركز على كل الأصوات الصغيرة التي قد تصدر من خلف الزجاج العازل، ولكنها كانت تناديني لا كانت تنادي سالم، تنقر الزجاج مرة تلو مرة تروح وتأتي تغرد بظمأ، كنت غافلة لم أنتبه إلا بعد أن كرهتني أشعر بذلك، فوجئت كثيراً بهذه المنادة، وتوقفت لثوانٍ محاولة التأكد من أنني لا أحلم، مناقيرها الصغيرة تطرق جمود لا مبالاتي بضعف وانكسار، استدركت أنها تطلب الماء والطعام تحت ضغط شمس صيفية قاسية، وأنا لاهية في عملي ارتدي شالاً من الصوف لشدة برودة التكييف يا لهذا التناقض وهذه الفروق!، نهضت وفتحت النافذة لتهرب بعيداً وتصفعني حرارة الشمس ملأت وعاءها ونثرت القليل من الخبز لها، وعدت إلى مكاني ألعن أنانيتي، في دقائق تجمعت الطيور من جديد حتى كثرت الجلبة عند النافذة عندها أيقنت أن هذا الطائر أجمل وأبسط منا لا يقدم سلسلة من النفاق من أجل طمع دنيوي ولا يكذب ليأخذ ما ليس له ولا يتزلق ليسرق طيبة أحد يكفيه من يومه قوته وفراشه والقليل القليل جداً مما يشبعه، لا ينشغل ولا يُشغل أحداً، إن حكى غنى وإن صمت نام هادئاً، وإن جاع عمل واجتهد وإن لم يجد طرق ليأكل لا ليتسول فسبحانه من خلق هذا الجمال ووزع النعم على خلقه كما يشاء ويرى. ما زلت أذكر ذلك الرجل العربي الكبير الذي كان يرتدي بزة زرقاء للعمال ويلف رأسه بغترة عربية مهترئة الوجع كما هو حال الوجع العربي الطويل يظهر من تحتها شعره الأبيض المتمادي بوجعه، اقترب من سيارتي التي أقف بها أمام أحد المطاعم وهو متردد في أن يطلب شيئا فتحت الزجاج وسألته (آمرني يبه) قال: أنا جائع أريد ما يسد جوعي ويروي ظمئي من هذا الحر الملتهب، وقتها بكيت كثيراً لأنني وقتها كنت حزينة وأفكر بحسابات كثيرة ومعقدة وألوم حظي بينما على الجانب الآخر من الحياة أناس عذابهم في الحياة أكبر وأعم من عذابي ألا وهو لقمة العيش، تناقض يفضح نقصنا ويعري سوادنا، نتأفف من الترف ونتعالى على الحياة ونفكر أن مشكلاتنا التافهة هي التعاسة لكن ما أجهلنا! سألته أن يأخذ كل ما يريد صفعني بقناعته يكفيني هذا القليل والحمدلله! تذكرت التفاهات التي تبكيها بعض الصديقات أسفاً على سفرة صيفية لم تأت وعلى حب سخيف فسد! وقريب خسر نقوده في تجارة دنيوية! الأرض كوكب غريب محشور بطبقات بشرية تعيش على الاختلاف والخلاف، تتنافس على البقاء وهي تدرك أن الفناء قادم لا محالة تبني وتصنع وتفكر وتدوس في طريقها الضعفاء والتعساء! وفي خضم هذه التحولات تفرز الطبقات المسحوقة التي تتنحى في هذا السباق على جانبي الحياة مكسورة القدرة ضالة طريق الاكتفاء تعاني الكد والكدح. الصيف فرصة للالتفات لهؤلاء الذي يختبئون تحت ظلال الستر والدعاء من الفقر والحاجة، فرصة لتقديم العون والمساعدة بأي شكل وبأي طريقة. يا أمة محمد يا أمة الإسلام يا أهل الدعوة والإيمان إلى متى ستظلون لاهثين غافلين عن هؤلاء ألا يقتلكم مشهد الجوع والمرض في الدول العربية والإسلامية البائسة، ألا يحزنكم منظر اليتيم القابع في ظلام دور باردة بلا أب أو أم تحميه من قسوة الحياة ألا يبكيكم بكاء المسنين في بيوت هجرها الفرح بعد أن باعهم من امتصوا شبابهم! ألا يقتلكم منظر عمال البناء ورصف الشوارع التي لا ترحمهم الشركات العملاقة وتجبرهم على العمل في عزّ هيجان الشمس وهي آمنة إن العيون لا تتبعهم والرقابة غائبة عنهم! أعرف أن البعض منكم يتأثر ولكنه يدفع القليل ويعود لحياته اللاهية العابثة المشوشة بالجري خلف متع الدنيا وملذاتها! ولكن هل تتخيلون أنفسكم في تلك الأماكن والأوضاع؟ هل تدركون النعمة التي تعيشونها! هل تقدمون ما يرضي ضمائركم الحية! لا أعرف وإن عرفت سأبكي نفسي معكم! قبل أن أغلق نافذة هذا الصباح.. حرارة هذا الصيف غريبة، وتدعو للتأمل والتساؤل ما الذي يحدث للسماء والأرض؟ هل هو غضب الرحمن أننا ازددنا عصياناً وظلماً؟ أم لأن العالم العربي يئن ويبكي حرقته بطعم الدم لشدة الظلم؟ أم أننا لا نجيد التعامل مع البيئة ونشحنها بسلبيات ممارساتنا الحياتية حتى ثخنت السماء وتوسعت ثقوبها؟ لا أعرف ولكن فلنحاول في هذا الجو الخانق مد يد الرحمة للآخرين من بشر وحيوانات، قنينة ماء باردة، لقمة صغيرة، مظلة ملونة، توصيلة مجانية، كلمة طيبة، ابتسامة نقية، دعاء صادق، أوعية ماء على النوافذ المغلقة للطيور، جرعات منها أيضاً للنباتات، الكثير من الأشياء نستطيع تقديمها لوجه الله، فلا تبخلوا وتنطوا على أنفسكم متلذذين بالأنانية واللامبالاة، كونوا كسالم وغيره من الطيبين، نحن مسلمون، والمسلم الحق من كان عوناً لأخيه الإنسان.