06 نوفمبر 2025
تسجيلسيدي الرئيس أنت تدرك أنك اليوم المؤهل لإنقاذ تونس لأنها انتخبتك بعد ستين سنة عشناها بين عهد بناء الزعيم بورقيبة لدولة حديثة ثم انحرافها في عهد شيخوخته وأمراضه وبين عهد تحول نفس الدولة تدريجيا إلى منظومة ظلم وتشريد واستئصال لم ينقذها الوعي المتأخر جدا من الانهيار. ولعلي أنا وأنت وعديد الوطنيين الدستوريين المعتدلين الرافضين للاستبداد حاولنا كل من موقعه أن ننصح وأن نحاول تغيير المنكر ولم نفلح لأننا لم نكن راديكاليين ولا متطرفين بل خريجي مدرسة العقلانية والمحاسبة بالنتائج. وأنت تعلم أنني كنت مهندس أول لقاء لك مع الشيخ راشد حين توليت رئاسة الحكومة وطلب مني رئيس النهضة أن أكون وسيط خير بينه وبينك ووفقني الله وقبلت أنت بلا تردد وبدأتما مسار الوفاق الذي توج بلقاء باريس الذي نظمه سليم الرياحي وكانت نتائجه نزع فتيل التصادم والاتجاه معا إلى الحوار الوطني وقد كان. اليوم أنت على رأس السلطة والحلان الوحيدان أمامك حسب رأيي المتواضع هما تنفيذ الإصلاحات الكبرى وتأمين هوية البلاد من الانحرافات.الحل الأول، هو الإقدام بجرأة أعلم أنها لا تنقصك على تنفيذ الإصلاحات الكبرى التي تحتمها الأزمات الكبرى بعد أن تحنطت القوانين القديمة وأصبحت قطاعات هامة توفر مجالات الفساد والتحايل وأهم هذه القطاعات الجباية والديوانة لإعادة النظر جذريا في نظم العدالة الجبائية وتغيير إجراءات سيارات العاملين بالخارج (أف سي أر) بصورة تغير العبث الراهن وتغذي خزينة الدولة وتنقذ أرواح المواطنين الذين يموتون في الطرقات بسبب سيارات عمرها نصف قرن (186 ضحية لشهر مارس الماضي). وكذلك مجال الأراضي الاشتراكية وأملاك الدولة التي تحولت إلى عائق يعطل التنمية والتشغيل وأنفع للبلاد أن يتحول وزير أملاك الدولة إلى وزير توزيع أملاك الدولة يعتق الدولة من هذا العبء الذي كبلها عقودا فالدولة ليست إقطاعية ولا مستعبدة للناس. وقس على ذلك ملف المناطق الحدودية التي تعيش على التجارة البينية مع الشقيقتين الجزائر وليبيا منذ قرون واليوم نكتشف أن القوانين لم تعد تستجيب لحاجيات عصرنا فلتكن بيننا وبين الشقيقتين مناطق للتجارة الحرة المضبوطة بقوانين جديدة تراعي الواقع وتصالح الناس مع القانون. وفي سجل مختلف اعملوا سيدي الرئيس بحزم على إجراء تعديلات على القوانين المنظمة للأسرة ببعث هيئة مستقلة من علماء الاجتماع والقانون والقضاة والمحامين والمجتمع المدني حتى تنقذوا المجتمع من ظاهرة استحالة البت في ملفات الطلاق والحضانة وحتى تنقذوا الأسرة من تحطيم تونس لأرقام قياسية في نسب الطلاق والعنوسة وتناول المخدرات والأمراض النفسية والأمهات العازبات وتفاقم الإجهاض والإنجاب خارج مؤسسة الزواج وتصدير شبابنا إلى الحركات المتطرفة. هذه الأرقام أمامكم وهي نتيجة مباشرة لتفكك الروابط الأسرية وفقدان سلطة الأب وانتشار التحايل على تلك القوانين البالية ومنتهية الصلاحية. وأذكركم بأن الرئيس الفرنسي الذي صفق لكم حين استعرضتم أمامه مكاسب المرأة التونسية هو نفسه متزوج ثلاث مرات على العرف الجاري، ويدرك بأن قوانين بلاده لا تبيح حشر الدولة في الحياة الشخصية لمواطنيه ويعرف أن 54% من المواليد الفرنسيين ولدوا خارج مؤسسة الزواج التقليدية. وفي سجل آخر تقتضي الأزمة الاقتصادية إعادة الاعتبار للقطاع العام الذي وقع تهميشه منذ 1987 تحت ضغط بعض رجال الأعمال المتغولين وتعليمات صندوق النقد الدولي فأصبح لنا تعليم عام هزيل وتعليم خاص رفيع وأصبحت لدينا مستشفيات عامة بائسة ومستوصفات خاصة مجهزة وأصبحت عندنا وسائل نقل عام خردة ووسائل نقل خاصة مكيفة (5 نجوم)، وبالتالي أصبح لدينا تمييز عنصري طبقي بين مواطن عادي له الحق في الخدمات الحكومية العامة المهترئة ومواطن مرفه وغني يتمتع بالخدمات الخاصة إنها كارثة وطنية إذا تحول القطاع الخاص إلى التجارة في كل شيء (التعليم والصحة والنقل وخبزة المواطن)، وتقلص القطاع العام إلى ملجأ للفقير وضعيف الدخل! والمثل الساطع على هذا التدهور هو مثل الديوان القومي للصيد البحري الذي أنشأ بقانون ثم ألغي بأمر فكان الناس يأكلون سمك بحرهم بأسعار معقولة ثم فرطت الدولة في هذا المرفق العام وباعت ممتلكاته من بحيرات ومراكب صيد ومحلات نظيفة للبيع بالتفصيل فارتفعت أسعار السمك إلى عشرة أضعاف في ظرف سنوات قليلة! ثم إن الإصلاح الأهم يتعلق بإنقاذ هوية البلاد من كل التطرفات باسم الدين والشرع أو باسم العلمانية والحداثة، لأن كليهما تطرف مرفوض وذلك بإعادة صياغة التربية وبرامج التعليم بتحديث المناهج وتغيير غاية التعليم من مؤسسة لإنتاج العاطلين إلى مؤسسة لإنشاء المواطنين تحقق مجتمع المعرفة وأغرب المفارقات أن بلادنا صنفت في الستينات من قبل صندوق الأمم المتحدة للتنمية في نفس درجة التطور والقابلية للنمو والمقدرات الطبيعية والكفاءات البشرية مع كوريا الجنوبية! نعم كنا معها في نفس الدرجة واليوم بعد جيل واحد نكتشف أن الميزانية التونسية السنوية كلها تتعادل مع ثلث ميزانية شركة (سامسونج) وحدها كما أن تونس كانت لها في السبعينات نفس مقومات التقدم التي كانت لبلاد مثل فنلندا (من حيث الموارد والمعوقات) واليوم نجد أن ميزانية بلادنا تساوي نصف ميزانية شركة (نوكيا)! الحقيقة التي غفلنا عنها منذ ستين عاما، وما نزال، هي أن التنمية ظاهرة ثقافية وليست ظاهرة اقتصادية بمعنى أن التقدم وكذلك التخلف هما من نتاج الإرادة السياسية وتحرير الإنسان من التبعية والتذيل وإحياء شعوره بالنخوة والمجد وأنه مواطن حر وأمامه سبل الابتكار والمبادرة وأن لديه هوية ولغة وحضارة لا أن تنطلق الحركات الانحرافية باسم العلمانية اليوم مستغلة تفاقم ظاهرة الإرهاب وهو مدان بكل المقاييس لتغير من الهندسة الوراثية للشعب وتشكك حتى في ثوابت الإسلام فرأينا ما لم يكن بورقيبة يرضاه من (كاستنغ) لانتداب ممثلين وممثلات للأفلام الخليعة أي تصدير بناتنا حفيدات السيدة أروى القيروانية زوجة الخليفة أبي جعفر المنصور وفاطمة الفهرية والعزيزة عثمانة للتمثيل في أفلام الدعارة من قبل شركة (هوت شوت بورنو) بدون أي بيان إحتجاج من أية مؤسسة دينية أو مدنية كما تعددت دعوات من بعض النساء لإلغاء تعليم القرآن وتطهير الكتب المدرسية (نعم تطهير!) من تاريخنا الإسلامي ومن طارق بن زياد والفاتحين وامرأة أخرى تنادي بتحرير الزواج المثلي واعتبار حقوق الزوج على زوجته "اغتصابا" وإحدى الجامعيات تقول على صفحتها الإلكترونية: (الشريعة بلوها واشربوا ماءها) كما أن أحد الوزراء الذي أقسم مثل زملائه على صيانة الدستور سمعه الناس يصرح عدة مرات على الفضائيات بأنه لا يوافق على أن الدولة التونسية دينها الإسلام لأن الدولة حسب رأيه ليس لها دين (كما جاء في الفصل الأول من الدستور الذي أقسم هذا الوزير على صيانته!). سيدي الرئيس إن دستور البلاد وهويتها السمحاء وإصلاحاتها الكبرى أمانة في عنقك فتوكل على الله.