06 نوفمبر 2025
تسجيلفي جولته العربية والإسلامية زار السيد إسماعيل هنية دولا من أشقاء وأصدقاء الشعب الفلسطيني وأنصار قضيته.. ومع أن الجامع المشترك بين هذه الدول هو الاستعداد لاستقبال السيد هنية ونصرة القضية الفلسطينية إلا أن ما بينها من خلافات على المستوى القومي أو السياسي أو على الانتماء الفكري والمذهبي جعل الزيارات والطريقة البروتوكولية التي استقبل بها فيها وما أرسلته من إشارات على احترامها والاعتراف كان مثيرا لحفائظ حاسدي حماس.. ولا بأس فخصوم حماس والمتربصون بها لا يحبذون أن تفتح أمامها أية صداقات أو هوامش عمل؛ لكن زيارته لإيران بالذات وعلاقتها بالظرف السياسي العام في المنطقة هذه الأيام أثارت انتقادات حتى لدى بعض أنصار حماس ومحبيها الذين بادر بعضهم قبل الزيارة بتمني أن لا تتم.. ذلك طرح تساؤلات حول حدود المقبول والمرفوض من العلاقات السياسية وبالأخص بالنسبة لحماس التي يفترض أن لا تصدر إلا عن عزيمة ونية ووعي شمولي.. وأقول: لا بد من التذكير ابتداء أن حماس هي حركة إسلامية سنية سلفية مذهبا وعقيدة، وأنها حركة مقاومة للعدو في الذؤابة من ذلك، ولا بد من التنبيه إلى أن الزيارة لا تأت في معرض تأييد الشيعة على السنة أو مناصرة السنة على الشيعة ولا تحت أي عنوان قومي أو مذهبي.. وقد رأينا كيف ضحت حماس بمصالح عليا مع بعض حلفائها وشركاء مربعها الاستراتيجي من أجل دماء الأبرياء في الثورات العربية.. فتأسيسا على ذلك لا يجوز – منطقا ولا وفاء – أن توضع في كل مرة ومع كل اجتهاد تحت الشك وفي مرمى الاتهامات.. على العكس من ذلك فإن جانبا مما لا تستطيع أن تقوله حماس يجب أن نفهمه فلا نطالبها بتعليله ولا نولجها الحرج في تبريره.. وهذا دور المثقف الواعي والنخب الفكرية والكتاب الذين ينظرون للأمور بموضوعية علمية ويحسنون تصفيف الأولويات وتصنيف السياسات.. ثم لا يجوز أن ننسى في هذا الصدد أربعة محددات (تقع بين الدين والسياسة) وعليها من الأدلة والشواهد ما ليس المقام لتفصيله، هذه المحددات أرى أنه يمكن من خلالها تقرير مواضع المصلحة العامة والحكم على تحالفات وعلاقات حماس أو غير حماس قبولا ورفضا تحليلا وتحريما ؛ الأربعة هي 1- ماهية إيران ومربعها الاستراتيجي في الصراع مع اليهود المحتلين – وهو الصراع الأساس للأمة في هذه المرحلة التاريخية والذي يجب أن يكون الحاكم الأهم للعلاقات والمصالح.. وإيران في هذه النقطة لا يمكن التسوية بينها وبين أمريكا وبريطانيا مثلا 2- قدرة حماس – على عدم الانجرار إلى ولاءات خارج مربعها السني والمقاومي أو داخل مربع إيران الشيعي أو القومي.. هنا لا يجوز أن نغفل عن إصرار حماس في كل المراحل على التميز عن إيران في أمور كثيرة وإصرارها على عدم السماح للمذهب الشيعي أن يتمدد داخل فلسطين وتحت ولايتها في غزة خاصة 3- قانون " الضرورات تبيح المحظورات " والنظر فيما إن كانت الضرورة تدفع لهذه العلاقة التي قد لا تكون مستساغة بالمطلق وفي كل الأوقات 4- العمل داخل لا خارج مساحات العمل المشتركة بين إيران والمتحالفين أو المتخالفين معها.. بمعنى أن القوى التي تدعم القضية الفلسطينية تدور في محاور ولكن توجد بينها مواضع اتفاق ومواضع اختلاف.. الذي على حماس أن تتنبه له هو أن حدود دورانها معهم هو المساحات المشتركة دون الولوج إلى التباينات والانضواءات التي تغرقها وتغرق قضيتها.. فإن تساءلنا عن ماهية إيران وعلاقتها بالكيان الصهيوني وبالصراع الاستراتيجي في المنطقة فالجواب: تقوله حماس ذاتها وتقوله نوعية الأسلحة التي تملكها، وتقوله انتصارات رد وردع العدوان على لبنان ثم على غزة.. وثمة حدثان مهمان وقعا أثناء زيارة السيد هنية لإيران وأعطيا دلالات واضحة ومحددة حول حقيقية المواجهة بين إيران والكيان وموقع زيارة السيد هنية من ذلك – الحدثان هما قصف طائرات العدو لغزة وإسقاط شهيد وجرحى دون مقدمات ولا أسباب، ثم تفجيرات نيودلهي وجورجيا ضد سفارتي العدو واتهمت فهما إيران.. فهل يليق بعدئذ بمثقف أو كاتب أن يغمض عن قيمة وأهمية هذه الزيارة وما تأتي في إطاره من استراتيجية؟! وإيران ليست هي فقط إيران المذهبية والطائفية والفارسية.. وهنا بالضبط تأتي استراتيجية حماس في التواصل معها والاستعانة بها لا تحت عنوان مذهبي أو طائفي أو إقليمي ولكن تحت استراتيجية الوجود والثورة والمواجهة وتخسير الكيان الصهيوني وفضح عجزه وضرورة الانتصار عليه والصمود أمامه.. البعض من المغرقين في نظرية المؤامرة يتجاهلون الحقائق الواقعية ويصرون على أن إيران حليف لأمريكا و " إسرائيل " ومع كل الاحترام لصفاء نية هؤلاء وصحة عقيدتهم فرأيهم هذا لا يخضع للبحث الموضوعي.. وليس هو موضع بحثنا.. وإن تساءلنا عن قدرة حماس على التمنع والتحصن من الانجرار لمربع إيران المذهبي والطائفي فمن المقرر قطعا ويقينا أن حماس والسيد هنية لم يعطوا الدنية في دين أو في مذهب لا لإيران النظام ولا إيران الشيعة منذ اليوم الذي جاء فيه الإيرانيون إلى مخيم مرج الزهور في جنوب لبنان في الـ92 وعرضوا على حماس دعمهم.. يومها اعترضوا على تسمية خيام المبعدين بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم أجمعين - ويومها أجابتهم حماس بأنها حركة مقاومة إسلامية سنية، وأن الدعم الإيراني يقبل فقط من دون تدخلات مذهبية أو مقتضيات تنازل في هذا الجانب.. وإن تساءلنا عن قانون " الضرورات تبيح المحظورات " وهو قانون يحكم السياسة كما يحكم غيرها من المناشط الإنسانية - وأنا هنا أتحدث بالمنطق الديني وليس البراغماتي - فأتساءل: أليست إيران هي المعادل الوحيد لقوة العدو الصهيوني في المنطقة؟ أليست العلاقة مع إيران وكسب تسليحها وتمويلها هو الذي حمى المقاومة في فلسطين حتى الآن؟ أليس المجلس العسكري في مصر لم يزل لا يستقبل هنية كما تستقبله إيران؟ أليست السلطة الفلسطينية لا تزال (حتى بعد توقيع اتفاق الدوحة) تنسق أمنيا مع العدو وتعتقل المناصرين والمؤيدين للمقاومة؟ (هذه السلطة التي سمحت قبل يومين للمستوطنين وحاخامات اليهود تحت حماية قواتها الأمنية بزيارة قبر يوسف في نابلس بالضد من كل القيم الوطنية والأخلاقية والثورية) ثم أليس العدو يعلن كل يوم بأنه يعد العدة لاجتياح غزة؟ فإذا ذهبنا نبحث عن منطق الضرورات في العلاقات الدولية النبوية أليس سنجده صلى الله عليه وسلم قد استفاد من جوار دولة الحبشة النصرانية، ومن جوار المطعم بن عدي المشرك؟ وسنجده صلى الله عليه وسلم قد حالف قبيلتي بني ضمرة أول العهد المدني وخزاعة آخره وكلاهما كافرة؟ وسنجده قد صالح يهود المدينة على ما هم عليه من الكفر والشرك وسوء الأدب مع الله تعالى؟ فهل كل هذه العلاقات أقامها على أساس الاتفاق المذهبي والطائفي أم على الضرورات السياسية والحمائية؟ وإذن أليس يمكن الاستفادة من إيران في ملف دعم المقاومة وهي في كل الأحوال ليست أسوأ من كل هؤلاء؟ وإن تساءلنا: عن العمل في المساحات المشتركة فليس من قبيل المصادفة أن يزور السيد هنية دولة الإمارات العربية بعد إيران مباشرة.. ولا يجوز أن ننسى في هذا الإطار أن حماس وتكاد تكون وحدها بين الحركات والثورات على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية التي حرصت على تمييز نفسها منذ وجدت بميزتين أثبتت التجارب أنهما الأفضل والأفعل لمعادلات دعم الجميع لها.. الميزتان هما ؛ 1- العمل في المساحات المشتركة بين كل الداعمين مع النأي عن خلافاتهم البينية 2- عدم التدخل في العلاقات الداخلية بين الشعوب ونظمها.. صحيح أن بعض خصوم حماس – داخل البيت – لا يزالون يخاصمونها لأسباب مختلفة ولكنها في كل الأحوال لم تفقد احترامهم وقدرتها على إحراجهم.. آخر القول: زيارة السيد هنية – لإيران تكون مرفوضة لو أنه في مقابل ذلك أو تابعا له أيد طائفيتها، ولو أنه خصها بزيارة لم يعممها على خصومها وأقرانها، ولو أنها كانت خارج المساحات المشتركة بين الجميع، ولو أنها ضربت معادلات الصراع الأساس في المنطقة.. فلنقدر للمقاومة موثوقيتها، ولنشفع ما نعلم من مصداقيتها فيما لا يتضح من حكمتها..