15 نوفمبر 2025

تسجيل

من يملك مفتاح التغيير؟

15 أكتوبر 2014

لو أخبرت مجموعة من الناس أن بينهم مخبرا يتجسس عليهم، ماذا سيكون رد فعلهم؟ في تجربة عملية تم توجيه هذا السؤال إلى مجموعة من الأفراد، وكانت النتيجة أن البعض رفض هذا السلوك واعتبره إهانة شخصية له، ولم يقبل بأقل من الكشف عن الدخيل وطرده من القاعة، أما البعض الآخر فاعتبر أنه لا داعي للقلق، فطالما أنه لم يرتكب ما يخرق "القانون" فلا يضيره أن يكون هناك من يتجسس عليه.في إطار هذه التجربة يمثل رد الفعل الأول نموذج الشخصية التي تضيق ذرعا بالسلطة المتطفلة ووسائلها في التحكم والرقابة، فيما يمثل النموذج الثاني الشخصية المحافظة، المقتنعة بأن للسلطة ضروراتها، وأنه لا حرج عليها فيما تقوم به من أفعال لتقييد حرية الناس أو مراقبتهم في سبيل المصالح العليا، التي حتى وإن لم يكن واضحا ما الذي تمثله فإنه يمكن استشعار أهميتها وخطورتها.غير أن هذه الثنائية تتلاشى فورا عندما يتم إقناع الأفراد محل التجربة بأن هناك تهديدا وشيكا لحياتهم وخطرا داهما على أمنهم وسلامتهم (وجود قنبلة وسط القاعة مثلا)، وأن التجسس عليهم ومراقبتهم هو ضروري للكشف عمن زرع القنبلة ومعاقبته. حينها يقدم الأفراد أمنهم على حريتهم، واستقرارهم على كرامتهم الشخصية، فينحازون جميعا إلى النموذج الثاني الذي لا يمانع في وجود من يتلصص عليهم حتى لو ظلت هويته مجهولة لهم.ونظرا لفاعلية أسلوب التخويف تستخدمه الأنظمة الحاكمة لإبقاء المواطنين تحت سيطرتها المباشرة، وذلك من خلال توظيف فكرة الخطر الداهم أو صناعتها، حتى يضطر الفرد أن يحتمي بالنظام القائم، ويتغاضى عن عيوبه، ويتوقف عن المطالبة بإصلاحه أو تعديل سياساته. وفي ظل خطاب الخطر والتهديد، يقترب الليبراليون من المحافظين، ويتماهى من هم في المعارضة مع من في الحكم، ويتقبل الجميع فكرة الضرورات التي تبيح المحظورات، ويبدأ الجميع في الحديث بلسان واحد، مرددين قناعات واحدة حول أولوية الاستقرار وأهمية الحفاظ على بقاء الدولة. ولا شك أن أنظمة الاستبداد تبرع في استخدام مثل هذا الأسلوب، ولكن لا يقتصر استخدامه عليها، فقد تلجأ إليه الأنظمة التي تصف نفسها بالديمقراطية، كما فعلت الولايات المتحدة خلال مرحلة الحرب الباردة، حين تم إقناع ملايين الأمريكيين أن الخطر الشيوعي سوف يبتلع بلادهم في أي لحظة، وفي ضوء حالة الاستنفار القصوى التي روج لها النظام تمت مراكمة أسلحة دمار شامل لم تستخدم قط، وذهبت أثمانها إلى جيوب بارونات المال وتجار السلاح، الذين كانوا المستفيدين الوحيدين من نشر هذه الفوبيا.وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي (دون أن يطلق صاروخ واحد باتجاه الأراضي الأمريكية)، قام بارونات المال والسلاح، مدعومين بوكلائهم في الإعلام والكونجرس بدفع الإدارة الأمريكية إلى تسويق فكرة "الإرهاب العالمي" كعدو جديد يشغل الفراغ الذي أحدثه غياب السوفيت، وذلك حتى يستمر ضخ الأموال إلى حساباتهم المصرفية من ناحية، ولإبقاء المواطن الأمريكي في حالة من الإذعان والانشغال بالخطر الغامض الذي يصر رجال السياسة أنه قريب جدا من ناحية أخرى.وهكذا وفي الحالتين تم إقناع الأمريكيين بوجود خطر داهم يتهدد وجودهم، ولا يمكن لغير الدولة بأجهزتها السيادية أن تتصدى له، وبالفعل احتمى المواطن بالدولة، التي استغلت الفرصة لسن مجموعة من التشريعات التي سلبت الأمريكيين الكثير من حرياتهم، وأبقتهم تحت المراقبة والتنصت عن طيب خاطر منهم. وإذا كان استغلال مشاعر الخوف الغريزي من المجهول قد نجح في بلد ترتفع نسبة التعليم فيه، كالولايات المتحدة، فمن المنطقي أن ينجح بدرجة أكبر في دول العالم الثالث الذي ننتمي له، خاصة أن مواطني هذا الجزء من العالم من طول تعرضهم للمراقبة، تحولوا من وضعية المراقَب (من قبل الغير) إلى وضعية المراقِب (لنفسه)، فالمواطن في عالمنا العربي صار بفعل الكوابيس التي تصدرها له أنظمته الحاكمة يخط لنفسه خطوطا حمراء كثيرة، يراقب بموجبها ما يصدر عنه من أقوال أو أفعال، الأمر الذي جعله يتقبل حالة المراقبة، ويتعايش معها بوصفها جزءا من حياته الطبيعية.وإذا كان ثمة أمل في أن ينجو أحد من سياسات التخويف ومن الوقوع في أسر عقلية المراقب في عالمنا العربي، فيتعين أن يكون هؤلاء من فئة الشباب، فتطلعهم للحرية يفوق تطلع غيرهم من الفئات العمرية الأكبر، فهم لا يقدسون الاستقرار، ولا تحركهم غريزة الخوف من المجهول، ولا يقبلون معادلة الأمن في مقابل الاستبداد. ولهذا تنحصر معركة التغيير الدائرة حاليا في العديد من البلدان بين الأنظمة وبين الشباب دون غيرهم من الفئات العمرية. فهل ستضحي أنظمة الاستبداد بشبابها من أجل أن تظل في مواقعها في الحكم، أم أن حماسة الشباب وتطلعهم لمستقبل أفضل سوف تكتب صفحة جديدة في عمر هذه الأمة؟