09 نوفمبر 2025

تسجيل

عودة العرب إلى مجرى التاريخ

15 يوليو 2022

تحتل الشعوب العربية منذ ما يسمى الربيع العربي سنة 2011 مركز الاهتمام لدى الرأي العام الدولي ليس بسبب عقائدي أو سياسي ولكن بسبب الصحوة الثقافية والفكرية التي أنجزها العالم العربي، ومؤشراتها هي تعدد نشر الكتب الفكرية والندوات الثقافية والمنتديات الحضارية التي جمعت فرقاء الأمس للتباحث حول أقوم المسالك للنهضة العربية وإلتحاق العرب بموكب التاريخ الإنساني كما كان العرب الأولون. ولكننا نصطدم بعد أكثر من عقد بالوضع الكارثي للعرب عموما حينما تعلن أمس منظمة الأمم المتحدة بأن 78 طفلا فلسطينيا قتلوا خلال عام 2021 إما بنيران الجيش الإسرائيلي أو تحت أنقاض البيوت المهدمة، وفي هذه الحقيقة مؤشر من مؤشرات العجز العربي أو ضياع البوصلة العربية حين نرى القضية المركزية للعرب تتوارى تدريجيا ليصنع أعداء العرب للعرب عدوا وهميا يقاومونه! ونسجل الاهتمام بالصحوة العربية ومعها المؤامرات حين تنادت الشعوب العربية الى رفض الاستبداد والمطالبة بالدساتير وهب زعماء عرب إلى الاستجابة لشعوبهم واعين بتطور العولمة وانتشار وسائل الاتصال العديدة التي تكفلت بدحر الدولة العميقة الوفية للاستعمار مما يدل على أن هذا الرأي العام فوجئ بنهر الحريات يتدفق من ينبوعه إلى كافة أرجاء المشرق والمغرب وهو نهر التاريخ الإنساني الذي عاد الى مجراه أي "عودة العرب للتاريخ بعد أن كادوا يطردون منه إلى الهامش كأننا أمة مستضعفة ضائعة". وهو ما أنصفنا فيه المنصفون أما السبب الثاني لوقع المفاجأة لدى المراقبين هو أن العديد من المستشرقين الغربيين الجدد أبناء فكر (برنارد لويس) طالما وضعوا للعالم العربي نظريات تفيد بأن الاستبداد يحمل جينات عربية إسلامية وأن العرب أهل تبعية وأعداء للحرية. بل إن كثيرا من العرب يؤيدون بهتانهم ويحبرون البحوث والدراسات للمراكز والجامعات يؤكدون فيها قواعد القنوط من العرب. وأنت تراهم اليوم بعد خيبة أملهم وانكسار حجتهم أمام نهر الحريات العربية المبارك يواصلون المؤامرات بأساليب أخرى غايتهم أن يظل العرب ذيولا وأذنابا لأسيادهم الغربيين بل ربما تسللوا إلى مراكز السلطة تدعمهم جيوش نراها أولا، نراها من أعوان المخابرات الغربية تبوؤهم المناصب وتغدق عليهم المال والمصداقية والنعمة ولاحظ العالم أن للغرب المتصهين والعنصري أذرعا عربية لفرض العبودية والاستسلام حول الانخراط في صفقة القرن للإجهاز نهائيا على الحقوق الفلسطينية وتمكين إسرائيل الكبرى من قيادة الشرق الأوسط الجديد! وأذكر أنني منذ مدة شاهدت في برنامج تليفزيوني شهير بقناة الجزيرة، مقابلة بين “مفكرين اثنين” من المغرب العربي للجدل حول صدقية الانتخابات في بعض الدول العربية ومدى تعبيرها عن الرأي الحقيقي للشعوب، وهو موضوع فيه بالطبع اختلاف المتناقشين الاثنين، والاختلاف مطلوب من قبل صاحب هذا البرنامج، ويتحول أحيانا إلى خلاف مما لا يفسد للود قضية على كل حال حسب الحكمة العربية. وأنا لا أريد في هذا التعليق القصير أن أدلي برأيي، بعد أن أدليت به مرات عديدة في نفس ذلك البرنامج وعلى نفس القناة، لكني أريد فقط التعبير عن أشد العجب من اعتقاد راسخ لدى أحد المتجادلين، بأن الغربيين عموما والفرنسيين تحديدا يستحقون الديمقراطية وحقوق الإنسان لأنهم – كما قال هذا الرجل حرفيا – لديهم فطاحلة الفكر أمثال فولتير ومنتسكيو وجون جاك روسو، مهدوا للفكر الديمقراطي وأسسوا مدرسة التنوير ونظروا للدساتير الليبرالية، وأضاف المتحدث المتحمس لبرهانه: أين نحن العرب من هذا؟ للحقيقة قررت حينما سمعت هذا السؤال أن أساهم بقسطي المتواضع للجواب عليه، توسما الخير في هذه الحوارات التي يجب أن تستمر عبر وسائل الإعلام ومنابر الثقافة. ولا أخفي مدى صدمتي وأنا أسمع من فم مثقف عربي نكرانا لكل التراث العربي الإسلامي في مجال الحريات واحترام العقد الرابط بين الحاكم والمحكوم، وقد أضيع في خضم الرصيد العربي الممتد من المحيط إلى الخليج في هذا الباب فقط أي الفكر السياسي العربي الإسلامي الزاخر كالبحر بعمالقة كبار تركوا للإنسانية كلها أهرامات من المعاجم وأمهات الكتب خلال خمسة عشر قرنا من الحضارة. وخشية أن أضيع بين الكنوز الفكرية رأيت أن يقتصر كلامي على بلاد المتحدث نفسه، تونس، وعلى جزء يسير من إسهامها في إثراء الثقافة العربية والإسلامية والعالمية، قبل قرون طويلة من العظماء الفرنسيين الذين ذكرهم الرجل واستشهد بفكرهم الثاقب لاستحقاق الديمقراطية دون العرب.. الذين نعتهم بكونهم أيتام مجد وناقصي حضارة. وتونس العربية هي التي أنجبت العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب كتاب المقدمة وفي هذا الكتاب كان العلامة هو أول من طالب الملوك بسن دستور واضح يحدد الحقوق والواجبات ويكون بين ولي الأمر وشعبه عقدا سياسيا ونظاما للملك مقترحا الميثاق المختوم بين الحاكم والمحكوم. وتونس أيضا هي من أنجبت الامام سحنون بن سعيد التنوخي الذي كان أول من قنن مبدأ استقلال القضاء حين رفض منصب القضاء الذي عرضه عليه الأمير محمد بن الأغلب فسأله الأمير عن سر رفضه فأجابه بقول خلده المؤرخون وهو: “أشترط أن أقاضي أهل بيتك وقرابتك وأعوانك فإن عليهم ظلامات للناس وأموالا لهم منذ زمن طويل حيث لم يجترئ عليهم من ولي القضاء قبلي”، فقال الأمير: “نعم لا تبدأ إلا بهم وأجر الحق على مفترق رأسي”. وهذا المبدأ الذي ظهر اليوم خلال الثورات العربية أساسيا وهو مبدأ استقلال القضاء هو الذي يؤسس لدولة الحق وسيادة القانون والتفريق بين السلطات وكانت تونس سباقة إليه بثمانمائة سنة قبل منتسكيو وفولتير. إن أفضل تحية نوجهها للثورات العربية هي أن نؤسسها على هويتها الحضارية ونعتز بأمجادنا ونرفع رؤوسنا بها عالية فبل أن نطالب غيرنا بالاعتراف بأفضالنا عليهم.. وهي أفضال حقيقية وموثقة.