07 نوفمبر 2025
تسجيلما أروع عبارات القرآن الكريم الذي أنزل على أشرف الأنبياء والمرسلين حين ينير دروب المؤمنين بالحكمة الكامنة في كل كلمة وإني منذ طفولتي رسخت في ذاكرتي بفضل مؤدبنا الشيخ البشير بن غانم رحمه الله الآية 214 من سورة البقرة والتي كان يفسرها لنا إمامنا ومربينا الشيخ عبد الرحمن خليف رحمه الله في حلقات الزيتونة بجامع عقبة بن نافع بالقيروان وهي: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" (214) فاتفق العلماء على أن معنى البأساء هو شدة الابتلاء بالقتل والجرح والأسر والجوع والعطش وأن الضراء هي ترك الأهل في أيدي المشركين وضياع الرزق والخوف من أذى الكفار أما فعل (زلزلوا) فهو امتحان المسلمين (في هذه الآية يرجح المفسرون أنها غزوة الخندق) امتحانهم بمحنة نفاذ الصبر حين تدلهم السبل ويتلاشى الأمل ويبدو النصر بعيد المنال إلى أن اكتملت الآية الكريمة باستغاثة المؤمنين (تذكروا أيضا عبارة بلغت القلوب الحناجر) ثم بالوعد الرباني الصادق العظيم بقوله (ألا إن نصر الله قريب). إن معنى الزلزال الذي ذكره سبحانه في هذه الآية هو الذي أستعيره لنعت الأحوال العربية والإسلامية كما تظهر اليوم للرأي العام الدولي مبعث أمل ومبعث قلق في الوقت نفسه وللربيع العربي هنا التأثير العميق على وضعنا الراهن حين اهتزت أركان أنظمة حكم لم تستطع مواكبة السيل الجارف من طموحات الشعوب بل استفرد بعض الطغاة وعائلاتهم بمقدرات شعوبهم وبلغت التحولات السياسية فيها درجات غير متوقعة تراوحت بين العنف وانحباس الاستثمار وضياع البوصلة وربما لم تشعر الجماهير فيها بأهم وأبرز إنجازات تلك التحولات المباركة وهي استعادة الإنسان لإنسانيته المتمثلة في الحرية وصون الحقوق واسترداد الكرامة. الخطايا العشر التي تعيق اليوم انعتاق الأمة هي 1- الخلط بين الدولة ومنظومة الحكم البائد فالمواطن اعتقد أن تصفية منظومة الفساد القديمة تستدعي التمرد على القوانين (حتى المرورية منها!) وأن كل من عمل في وظيفة هو من فلول النظام السابق. 2- تيسير استعمال العنف للتعدي على حقوق الناس بدعوى أن الثورة مرت من هنا (نذكر مثال الاستحواذ على أراضي الناس وبناء بيوت فوضوية عليها ومثال الانتقام من الخصوم شخصيا ومن دون الرجوع إلى محكمة). 3- الانفلات الأمني الذي يروع المواطن جعل الناس يربطون بين الثورة وبين الفوضى وأصبحت المطالبة بالأمن أولوية الأولويات بل شرع الناس ينزلون إلى الشارع متظاهرين مطالبين بحقهم في الأمن 4- تراكم المطالبات الاجتماعية بشكل يتجاوز مقدرات الدولة وموازين المؤسسات الصناعية مما أجبر أصحاب هذه المؤسسات على الهرب والاستقرار في بلدان أخرى. 5- اتساع رقعة العنف السياسي بأشكال مبتدعة بلغت حدود القتل والاختطاف والاعتداء على ممثلي الدولة ومطبقي القانون والخصوم السياسيين واتسع خرق القانون على راقع الدولة بل أصبح الأمن يحتاج إلى أمن. 6- انفجار العنف اللفظي والتحريضي واستعمال لغة السب والشتم والتنكيل في المنابر دون رادع (والحجة ألسنا في ثورة؟). 7- انتشار مناخ التخوين والكيد والتشويه على صفحات المواقع الاجتماعية بسبب التخفي وعدم تحمل المسؤولية القانونية ونتج عن هذه الفتنة تقسيم جائر للمواطنين في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا إلى مسلمين وعلمانيين (أو كفرة) وإلى ثوريين وثورة مضادة وإلى أبطال مستقبل وفلول نظام بائد وهذه الاختزالات الظالمة فتحت أبواب العنف والاستئصال والإقصاء. 8- فتح أبواب التدخلات الأجنبية بمخابراتها وأعوانها لتزيد النار زيتا وتورط الشعوب في مؤامرات ضد مصالحها وإقحامها في أجندات أعدائها. 9- ضياع النخبة السياسية قليلة الخبرة بين خدمة أحزابها وخدمة الوطن. 10- تخبط النخبة أمام استفحال الملفات المطروحة للحل العاجل بفقدان سلم أولويات وفاقية وطنية تحدد لها الآجال وتوفر لها الموارد المالية والمخططات العقلانية والمعالجات الشفافة مثل ملف تشغيل الشباب وإعادة النظر كليا في برامج التعليم التي تنتج لنا جيوش عاطلين وكذلك تقسيم تراب البلاد بشكل مختلف يلغي تدريجيا الفوارق في النمو وفرص الاستثمار وتوفير أقطاب الصناعة والزراعة والسياحة بالعدل والقسطاس. تلاحظون أن هذه الخطايا العشر أو الجراح العشر التي لا تزال تنزف في بلداننا العربية مهما كان ربيعها أي تلك التي مرت بثورة أو تلك التي صنع قادتها ربيعا هادئا وديعا بلا هزات عنيفة. فالعالم العربي في هذا المنعرج من تاريخه يعاني زلازل من الحجم الكبير (سبعة على سلم الحضارة...الشبيه بسلم ريشتر) ولعلنا لا نزال في مرحلة نقاهة بعد تعافينا من أمراض الاستبداد كمن يصحو تدريجيا بعد إجراء عملية جراحية وهو تحت تأثير التخدير فينظر من حوله ليرى الأشياء والناس يلفهم الضباب غير واضحي المعالم ويبدأ في استرداد وعيه المفقود شيئا فشيئا حتى تتضح الرؤية وتستقيم أمامه الخطوط ويعي الحياة من حوله كما هي بعسر مشاكلها وتعقيد أوضاعها واستحالة حل معضلاتها من دون وفاق واسع ومن دون ترفع عن توافه الأحقاد ومن دون استعادة هيبة دولة عادلة قوية آمنة. ذلك هو التحدي الأكبر لمواجهة الزلازل.