12 نوفمبر 2025

تسجيل

ثم هرمنا معًا

14 أغسطس 2014

وأنا صغير؛ كان الحلم يقفز ويضحك، في ثوب فتاة في السادسة، كانت في صفّي، لم تكن أيامها (صدرية المدرسة) ولا موضة اللون الزهري للبنات والأزرق للذكور، ولكنّ الحلم كان يطير مستعيراً ضحكاتها أجنحة. في العاشرة كان الحلم يزورني مع (السندباد) الذي قرأته خلسة من كتاب مدرسيّ أظنه للصف الخامس، بعدما ختمت القرآن وأنا في الصف الثاني، وأتقنت فكّ الخطّ، يطير السندباد رابطاً نفسه بالنسر، فأطير معه بقلق عظيم، وأحطّ معه على جزيرة الحلم والموت.في الرابعة عشرة كان الحلم يجري بين أقدام لاعبي الكرة، وقبضات مدرّب الفتوة الذي كان ملاكماً، وأبطال القصص الذين لم يكونوا يطيرون، عدنا جميعاً إلى الأرض، حتى الحلم.. لبس مثلنا حذاء رياضيا رديئا وركض أمامنا في ملاعب القرى المعشبة، قذفنا الكرة نحو الأعلى، ولم نسجّل أهدافاً.في الثامنة عشرة تثاءب الحلم وتركني وحيداً مع الرياضيات والعلوم والفيزياء، وبخته مراراً كي يصحو دون فائدة، كان لئيماً معي يومها، كان يأكل وحيداً ويشرب وحيداً، الأمر الذي جعلني أكتب الشعر، لأعاتبه فقط. على عتبات العشرين عاد إليّ الولد الضالّ نادماً تائباً، ساعدني في بناء البيت، وسافر معي وحمل عنّي حقائبي، كان يسامرني في الليل الطويل أثناء السفر، ويستعيد ذكريات الطيران، فنطير معاً لنضحك ونتذكر، ونحبّ الحياة معاً، قبل أن تعلن الجاذبية قانونها الأزلي، فنعود معاً إلى الأرض، ونقول: " حاولنا".في الثلاثين تعثر صديقي في الليل، كان الليل مجهداً، وكانت فوانيسه شحيحة الزيت، وقد أتعبنا صعود الجبل وعلى أكتافنا أحجار منتقاة من بيوتنا القديمة، كان صديقي يمشي معي بعكازين، ويتكابر على ألمه، ويحكي لي عن الأربعين والاكتمال، والسفر والغربة والنسيان والموت، لم يكن مقنعاً تماماً، ولكنه ظلّ يحبني تكفيراً عن سيئاته، وكنت متسامحاً معه، وأحياناً كنت أشتاق إلى حكاياته، وأشفق عليه وهو يسعل من البرد، ويسقط على الأرض كلما أسرع في المشي. **الآن؛ يزورني الحلم في فترات متقطّعة، عجوزاً ملأ الشيب رأسه ولحيته، بمقعد متحرك، يمشي معي يوم العطلة في الحديقة، يقرأ لي نصوصاً عن الرضا والقناعة، يشرب معي الشاي دون أن يعترض على درجة حلاوته، يجلس إلى جانبي وأنا أكتب، فيبتسم ، ويصلح لي أخطائي الإملائية، ويساعدني في حمل حجارة البيوت التي تركتها. في المستشفى القديم.. في تلك البلدة الهادئة يقيم الآن، يتمدّد في البياض، ويستسلم لمصل الدواء المحقون في كيس السيروم، يغمض عينيه طويلاً، ويسألني عن واجبات الغد، وعن الطيران.في المستشفى القديم.. في تلك البلدة الطيبة حيث تغير طائرات، وتسقط براميل، تسقط كلمات الشحن الطائفي، يسقط مطر في الصيف، تسقط سواطير حادة.. ينام صديقي الحلم في غرفة الإنعاش، ولكنه لم يسقط.. إلى الآن على الأقلّ.