12 نوفمبر 2025

تسجيل

قوة الجيوش وقوة الشعوب

14 أغسطس 2013

ترتبط قوة الأمم إيجابا وسلبا بقوة جيوشها، فلا توجد أمة ارتقت إلى مصاف الدول المحترمة من دون جيش قوي يحميها، والمعادلة الطبيعية في هذا الصدد أن الأمة القوية تمتلك جيشا قويا والأمة الضعيفة تمتلك جيشا ضعيفا. ولكن الغريب أن التاريخ قد عرف استثناءات على هذه القاعدة، ففي بعض الأحيان كانت هناك أمم قوية تفضل ألا تتخطى جيوشها حدودا معينة من القوة لاعتبارات تتعلق بحماية الحريات، وأبرز الأمثلة على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والتي رغم أنها تعد اليوم صاحبة أقوى جيش عرفته البشرية في تاريخها، إلا أن البدايات الأولى لهذه الدولة العظمى قد شهدت حالة من التحفظ إزاء امتلاك جيش قوي. فالولايات الأمريكية التي شكلت نواة الاتحاد كانت تتوجس من ازدياد قوة جيشها على نحو غير محسوب، على اعتبار أن كل زيادة في قوة الجيش كانت تمثل من وجهة نظرهم انتقاصا من الحرية الإجمالية التي يتمتع بها الأمريكيون، كما كان ثمة خوف لدى الأمريكيين من أن يتحول جيشهم إلى قوة مستبدة توجه مدافعها ذات يوم إلى مؤسساتهم الديمقراطية الوليدة. لقد كانت القوافل التجارية الأمريكية تتعرض لهجمات فادحة من القراصنة، وبخاصة بعد أن فقدت الحماية التي كان يقدمها لها الأسطول البريطاني قبل الاستقلال، ورغم ذلك تردد الأمريكيون طويلا في تقوية أسطولهم البحري خوفا من أن يفقدوا حرياتهم السياسية. واحتاج الكونغرس سنوات طويلة ليأخذوا قرارا بتقوية سلاح البحرية الأمريكية، وبشرط أن تدعم قوة الأسطول بالقدر الذي يكفي لحماية تجارة الولايات الأمريكية من القراصنة، وليس بالدرجة التي تجعله قادرا على ابتلاع حرية الولايات وحرية مواطنيها. يعكس النموذج الأمريكي الشكل الأمثل الذي ينبغي أن تكون عليه المؤسسة العسكرية. حيث نشأ النظام السياسي ثم أنشأ الجيش التابع له والمؤتمر بأمره، ولهذا حتى بعد أن صار الجيش الأمريكي رقم واحد في العالم إلا أنه مازال يخضع للقرار السياسي ولا يتصور أن ينقلب على مؤسسات الديمقراطية الأمريكية التي يرأسها مدنيون. أما في المشرق فإن الوضع يبدو معكوسا للأسف، فالكثير من أنظمة ما بعد الاستقلال في العالمين العربي والإسلامي نشأت حول الجيوش أو كان للعسكر الكلمة الحاسمة في تحديد ملامحها، شمل هذا على سبيل المثال: مصر—عبد الناصر، ليبيا— القذافي، الجزائر— بو مدين، سوريا—حسني الزعيم. في هذه الحالات وغيرها كان الجيش هو النواة التي قام عليها النظام السياسي، ولهذا تدخل العسكريون في السياسة منذ اليوم الأول لنشأة هذه الأنظمة، وصار لهم الكلمة العليا في كيفية تسيير شؤون الدولة وعمل مؤسساتها، سواء من خلال الحكم المباشر أو من خلال التأثير على مجريات الأمور من وراء ستار. أدى هذا إلى أن أصبح للجيش قوة أكبر من قوة المجتمع الذي ينتمي إليه، حيث ابتلع الجيش معظم الحقوق والحريات وصاغ ملامح النظام السياسي على مقاسه، ولم تعد قوته دالة على قوة الدولة التي يمثلها وإنما أصبحت في كثير من الأحيان خصماً منها أو عبئا عليها. ولكن المشكلات المرتبطة باختلال العلاقة بين قوة الجيوش وقوة المجتمعات لم تكن أخطر ما يهدد استقلال الشعوب العربية، فقد برزت مشكلة أخطر تمثلت في اختلاف المشروع الفكري لدى قادة هذه الجيوش عنه لدى الجماهير أو لنقل الغالبية العظمى منها. فمعظم قادة الجيوش العربية تتبنى قيم العلمانية الغربية، والتي تؤبد وتؤكد وضع المنطقة في إطار من التبعية للغرب، من خلال المحافظة على أيقونة الدولة القومية ومقاومة أي فكرة أو مشروع بخصوص الاندماج الإقليمي، بحجة أن ذلك مما يتعارض مع الاستقلال الوطني والسيادة القومية. على أنه في معظم الأحيان لا تكون هذه هي الأسباب الحقيقية وراء حرص العسكر المبالغ فيه على تبني الفكرة القومية الضيقة. فثمة اعتبارات تتعلق بمراعاة مصادرهم في التسليح، هذه المصادر تتولى ليس فقط تحديد نوعية الأسلحة وطريقة استخدامها وإنما أيضا تحديد الأعداء الذين يمكن استخدام هذه الأسلحة ضدهم والأصدقاء الذين يحظر استخدامها إزائهم، فوفقا لشروط المصدر، تصبح كافة الحركات المقاومة للعدوان الصهيوني مثلا جماعات إرهابية، فيما تتحول إسرائيل نفسها إلى صديق يتعين التعاون والتنسيق معه. وهناك أيضا الاعتبارات المتعلقة بالتدريب الذي يتلقاه العسكريون العرب، والذي يتم في معظمه في الغرب، حيث يتم ترسيخ قيم ومفاهيم العلمانية والتحذير من بزوغ الفكرة الدينية. الأمر الذي ينتهي بهذه القيادات إلى الاقتناع بأن فاتورة الالتزامات الدينية مكلفة بالنسبة لهم، ويدفعهم إلى التمسك بالشعارات القومية الضيقة، خدمة للمشروع والفكرة الوطنيتين، ولكن الجانب الآخر من الصورة هو خدمة المشروع الغربي الذي لا يناسبه نشوء تكتلات إقليمية يمكنها أن تهدد مصالحه. من هنا نفهم كيف أن التحذير الذي ورد على لسان زعيم الانقلابيين في مصر من أن انقلابهم على الرئيس الشرعي جاء للحيلولة دون تبلور الأفكار الجامعة الإسلامية، هو عزف على النغمة التي يفهمها ويفضلها الغرب. المثير للدهشة أن أوروبا— منبع فكرة الدولة القومية— تتجه ناحية الاندماج في مشروع فوق—قومي، فيما أنظمتنا التي يمتلك فيها العسكر للأسف الكلمة الأخيرة مازالت تعتبر أن خطط الاندماج الإقليمي تهمة تستوجب المحاسبة. يبدو الأمر هنا كما لو كان هؤلاء ملكيين أكثر من الملك، فهم يحرصون على بقاء الدولة القومية في صورتها الضيقة والمحدودة في الوقت الذي تتحرك فيه الدولة في الغرب ناحية الاندماج في اتحاد أكبر وأقوى. والخلاصة أن قوة العسكر في الكثير من الأنظمة العربية قد لا تشكل إضافة لرصيد قوة الدولة، بقدر ما قد تمثل خصما منها، خاصة أنهم قد انصرفوا في كثير من الأحيان عن وظيفتهم القتالية لصالح أعمال أخرى تدر دخلا لا يخضع للمحاسبة، والأسوأ أنهم يشهدون — أو معظمهم — حالة من الاسترخاء، بعد دخولهم في حالة سلامية مع عدوهم الإستراتيجي والوحيد، الأمر الذي خلق أجواء من الاستقرار الزائف الذي لا ينعكس بالضرورة على رفاهية الشعوب أو أمنها.