15 نوفمبر 2025
تسجيلمنَ الـمعروفِ أنَّ التوحُّدَ هو اضطرابٌ في النموِّ العصبيِّ يَتَّصفُ بضَعْفِ التفاعلِ الاجتماعيِّ والتواصُلِ اللفظيِّ وغيرِ اللفظيِّ، وبأنماطٍ سلوكيةٍ مُـقَـيَّـدَةٍ ومُتكرِّرَةٍ. فالـمُتَوَحِّدُ لا يتفاعلُ معَ الأشخاصِ الموجودينَ في محيطِـهِ الاجتماعيِّ، وإنما يبدو كمنْ يعيشُ في عالَمٍ عقليٍّ ونفسيٍّ خاصٍّ به ومنفصلٍ عنهم. وإذا تَمَّ توجيهُ الكلامِ إليه، لا يردُّ أو يبدو عليه أنَّه لامسَ عقلَهُ ومشاعرَهُ. وحتى حين تقومُ أمُّهُ، على سبيلِ الـمثالِ، بضَمِّـهِ وتقبيلِـهِ وتدليلِـهِ، يظلُّ مُنشغلاً بعالـمِهِ الذاتيِّ، ولا يُعَبِّـرُ عن تأثُّرٍ عاطفيِّ. ومما يُبَيِّنُ تَوَحُّدَهُ أنَّ سلوكَـهُ يَتَّسِمُ بأمورٍ، منها مثلاً: تكرارُ تحريكِ الرأسِ يُمنةً ويُسرةً، والانتباهُ الكُلِّيُّ لأمرٍ بعينِـهِ، وعدمُ القبولِ بتغييرِ ترتيبِ الأشياءِ حولَـهُ، وإيقاعِ الأذى بالنفسِ كالضَّغطِ الـمُفرطِ على العينِ. ولو قمنا بقياسِ التَّوحُّدِ على الدولِ، فسنجدُ أنَّ بعضَ أنظمتِها يعاني مِـنْ بعضِ أعراضِـهِ بدرجاتٍ مختلفةٍ، ويعودُ ذلك إلى أسبابٍ تتعلقُ باستقرارِها السياسيِّ، وفاعليتِها الاقتصاديةِ، وتأثيرِها الحضاريِّ، والـمدى الذي بلغَتْـهُ في ترسيخِ قِـيَمِ الـمُواطَنَـةِ والإنسانيةِ في نفوسِ أبنائها. وهذا يدفعُنا لافتراضِ وجودِ ميدانٍ جديدٍ لعلمِ النفسِ هو علمُ نفسِ الدُّولِ الذي يتعاملُ معها ككيانٍ حيٍّ ذي عقلٍ وإرادةٍ وروحٍ ينبعُ منها سياساتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ.سأتحدثُ اليومَ عن نظامِ دولةٍ عربيةٍ كبرى تُبَـيِّنُ سياساتُه الداخليةُ والخارجيةُ وإعلامُهُ أنَّهُ يعيشُ حالةً حادةً منَ التَّوَحُّدِ والانفصالِ عن الواقعِ. ولنقرأْ ذلك في نقاطٍ، كالتالي:(1) يتعاملُ هذا النظامُ مع محيطِـهِ العربيِّ وكأنَّ دولتَـهُ قادرةٌ على التأثيرِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والحضاريِّ الذي يُعطيها الحقَّ في التَّعالي العنصريِّ الفارغِ الـمَصحوبِ بالإساءةِ للشعوبِ والقياداتِ إساءاتٍ بالغةً. وهو بذلك، منفصلٌ عن الواقعِ الذي يخبرُنا أنَّ التأثيرَ ينبعُ من الفاعليةِ والتَّجَـدُّدِ سياسياً واقتصادياً، والقدرةِ على الالتزامِ بقضايا الأمةِ، و هي أمورٌ بينَـهُ وبينها مئاتُ السنواتِ الضوئيةِ. (2) أنَّـهُ يعيشُ في مرحلةٍ تاريخيةٍ لا يتعداها، هي مرحلةُ الصراعِ القوميِّ مع الكيانِ الصهيونيِّ، فيُصرُّ على أنَّ بلادَهُ وحدَها ضَحَّتْ في سبيلِ الأمةِ، ولم تجدْ منَ الأشقاءِ دَعماً، مما أوصلَها إلى الحالةِ الرديئةِ اقتصادياً التي تُعانيها. رغم أنَّ الواقعَ يخبرُنا أنَّ الأمةَ كلَّها شاركتْ في الصراعِ عسكرياً واقتصادياً وسياسياً حسبَ قدراتِ دولِها، وأنَّ دولةَ ذلك النظامُ هي التي تخلتْ عن دورِها القوميِّ منذُ أكثرَ منْ أربعةِ عقودٍ لعبتْ خلالَها دوراً وظيفياً مدفوعَ الثمنِ كوسيطٍ غيرِ نزيهٍ بين الأمةِ والكيانِ الصهيونيِّ.(3) مما يُشيرُ إلى قوةِ معاناتِـهِ منَ التوحُّدِ أنَّهُ يرفضُ التغييرَ في أنماطِ التفكيرِ، حين يجعلُ منْ انتقادِ الشعوبِ والقياداتِ وسيلةً للهروبِ من مواجهةِ الواقعِ الذي يخبرُنا أنَّ سياساتِهِ الداخليةَ والخارجيةَ هي التي أفقرتْ مواطنيه، وسحقَتْ إنسانيتَهُم، وشَغَلَـتْهُم بالحرمانِ والخوفِ منَ الغدِ. ولذلك نجدُ إعلامَـهُ مشغولاً بالتركيزِ على ترسيخِ فكرةِ عبادةِ القائدِ الفذِّ العظيمِ الذي لم تُنجبُ النساءُ مثيلاً له، والذي يعملُ الأشقاءُ والغربُ والشرقُ على إسقاطِـهِ. وهو أمرٌ تُكَـذِّبُـهُ الأحداثُ خلال الثلاث سنواتٍ ونصفِ السنةِ الـماضياتِ التي شهدتْ بروزَ القائدِ بعد انقلابِـهِ على الشرعيةِ وخَيارِ الشعبِ، وارتمائِـهِ في أحضانِ كلِّ صاحبِ مشروعٍ ضد دولتِـهِ وشعبِها ودولِ وشعوبِ الأمةِ. (4) أما العلامةُ الكبرى على بلوغِ التَّوَحُّدِ مرحلةً متقدمةً جداً في هذا النظامِ، فهي الفجاجةُ القائمةُ على الكِـبْرِ والجهلِ وعدمِ احترامِ الأمةِ كلِّها في إساءاتِـهِ وإساءاتِ الـمُهرجينَ في إعلامِـهِ للإسلامِ الحنيفِ، وتحقيرِ تاريخنا الإسلاميِّ ورجالاتِـهِ وعلمائِـهِ، في محاولةٍ لسَـلْخِ شعبِـهِ عن أمتِـهِ وحضارتِـها وثقافتِها. والـمصيبةُ، أنَّ تلك الإساءاتِ يُصاحبُها توكيدٌ على إنسانيةِ وأخلاقيةِ الكيانِ الصهيونيِّ، ومشروعيةِ وشرعيةِ وجودِهِ، وحقِّـهِ في ممارسةِ الجرائمِ ضدَّ أشقائنا الفلسطينيينَ.والرائع في الأمر، أنَّ القياداتِ والدولَ العربيةَ الـمُستهدفةَ إعلامياً وسياسياً منْ قِـبَلِ هذا النظامِ، لاينشغلونَ بالردِّ على إعلامِهِ الضَّحْلِ سياسياً وثقافياً وحضارياً، لأنَّهم يتفهمونَ الخللَ الشاملَ الذي تعيشُهُ تلك الدولةُ الكبيرةُ، ويدركونَ أنَّ نظامَها الانقلابيَّ، منذُ نشوئِـهِ، يُعاني من حالةِ تَوحُّدٍ حادةٍ تمنعُهُ منَ التفاعلِ مع الواقعِ، والتواصلِ مع الآخرينَ.كلمةٌ أخيرةٌ:لو كانتِ الأمورُ بالـمساحةِ وتَعدادِ السكانِ، لَبُعِـثَ الأنبياءُ والرُّسُلُ، صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم، في الرومِ أو الفرسِ. لكنَّ الأمورَ تُقاسُ بالحيويةِ، والفاعليةِ، والقدرةِ على التجدُّدِ والتجديدِ والتأثيرِ والتأثُّـرِ.